عاشت إسرائيل طول أيام ثورة ميدان التحرير على أعصابها وكادت تفقد صوابها ولم تدخّر جهدا للدفاع عن حليفها الإستراتيجي حسني مبارك، وسخّرت كل إمكانياتها لإقناع أمريكا بضرورة أن لا تترك هذا النظام العميل يسقط، وبرَّرَت ذلك بالقول أن التخلّي عن مبارك بهذه النهاية التعيسة سيرهب الأنظمة العميلة الأخرى وسيجعلها تتوقّف عن دعمنا على حساب قضايا أمتها العربية... حاولت إسرائيل مدّ الرئيس المصري المخلوع بقشّة النجاة، ليس ردّا لجميله الذي لا يقدّر بثمن وإنّما خوفا، كما قلنا، من فقد عملائها الآخرين في المنطقة من جهة، وخشية أن يأتي خلفه نظام وطني يبعد أرض الكنانة عن سوق العمالة والخيانة ويعيدها إلى مكانها الصّحيح كأكبر دولة عربية وطنية تحافظ على سيادة وكرامة الأمة العربية وتبذل النفس والنفيس في سبيل حلّ قضاياها واستعادة حقوق شعوبها المغتصبة من جهة ثانية. وأشدّ ما حبس أنفاس الكيان الصهيوني هو رعبه من أن تسحق ثورة الشباب المصري إتفاقية «كامب ديفيد» وتضع حدّا لعارها، لكن التخوفات الإسرائيلية سرعان ما تبدّدت وأنفاسها عادت بعد أن أعلن المجلس الأعلى للقوات المسلّحة تمسّك مصر بكل المعاهدات والإتفاقيات مع الخارج وعلى رأسها إتفاقية «كامب ديفيد». والواقع أن تمسّك القيادة العسكرية التي تقود زمام الأمور في مصر مؤقتا بمثل هذه الاتفاقية مردّه إلى أن مهمتها (أي القيادة العسكرية) تنحصر فقط في ضمان إنتقال سلمي للسلطة في مصر وأن إلغاء أي معاهدة أو تعديلها من شأن مؤسسات الدولة التي سيتمّ إعادة بنائها لاحقا.. لكن يبدو بأن تمسّك الجيش بمثل هذه الاتفاقية ستتبناه القيادات المصرية اللاحقة بمبرّر أن «كامب ديفيد» تحفظ مصر من شرّ إسرائيل، وأنَّ نسفَها سيكون بمثابة هزّ لعشّ الدبّور الصهيوني الذي لن يتردّد في الانقضاض عليها، ثم وهو الأهم فإن هذه الاتفاقية التي أدّى توقيعها إلى إحداث قطيعة عربية مع مصر دامت سنوات تعتبر مصدرا لمعونات إقتصادية أمريكية هامة، هي في الواقع ثمن تقبضه أمّ الدّنيا مقابل المتاجرة بالقضايا العربية في سوق الخيانة والعمالة... ومعلوم أن اتفاقية «كامب ديفيد» الموقّعة في 17 سبتمبر 1978 بين الرئيس المصري السابق، أنور السادات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل، مناحم بيغن، بعد 12 يوما من المفاوضات في المنتجع الرئاسي بكامب ديفيد بولاية ميريلاند الأمريكية تحت إشراف الرئيس جيمي كارتر، ربطت مصر بالتزامات تقود إلى إستعادتها لسيادتها الكاملة على سيناء مقابل حفظها لأمن إسرائيل وصيانة مصالحها ومصالح أمريكا الإقليمية بالمنطقة، وطبعا تعهدّ الرّاعي الأمريكي الحريص جدّا على أمن وسلامة إسرائيل بمكافأة مصر على هذه الخطوة الجريئة وحدّد لها معونة إقتصادية وعسكرية في شكل رشوة بقيمة 2,1 مليار دولار تتلقاها سنويا، في حين إلتزمت أمريكا بتقديم ثلاثة ملايير دولار لإسرائيل. وقد ظلّت المعونة الاقتصادية التي يصفها البعض بالحسنة التي تردّها مصر بعشرة أمثالها في هبوط مستمر، إذ تنخفض سنويا بنسبة 5٪، أما المعونة العسكرية التي كانت تبلغ 1,3 مليار دولار فقد انخفضت عام 1998 من 815 مليون دولار إلى 445 عام 2008، ثم تقلّصت بنسبة 50٪ عام 2009، لتصبح 200 مليون دولار، ومبرّر الخفض أن مصر لم تحقّق تقدما أمنيا ملحوظا مع إسرائيل ولم تضع حدّا لاستمرار تهريب السّلاح نحو غزة، ولم تتقدّم بمجالات الحريّات وحقوق الإنسان وحريّة الصّحافة والقضاء... ورغم أن الجميع يدرك بأن المعونة الأمريكية ليست منحة أو عطيّة أو هبة، بل أن أمريكا تعيد جزءا كبيرا منها إلى خزانتها بالنظر إلى الشروط التي ربطتها بها، ومنها اشتراطها على أن تشتري مصر السّلع والخدمات من أمريكا وتشحن 50٪ مما تقتنيه على متن سفن أمريكية وتستخدم مبالغ التحويلات النقدية لسداد الديون المستحقة لأمريكا، فإن مصر مازالت تعتقد بأنها بحاجة ماسّة إلى هذه المعونة التي بلغت خلال 30 عاما 27,916 مليار دولار والتي حلّت العديد من المشاكل الإجتماعية والإقتصادية، لهذا فهي غير جاهزة للتفريط في هذا المصدر المالي الذي يعتبره البعض ملوَّثًا بتنازلات تمسّ سيادة مصر وبخيانة للقضايا العربية وفي مقدّمتها القضية الفلسطينية التي جنت عليها «كامب ديفيد» وما تزال..