تعرف الساحة الاقتصادية الأوروبية هذه الأيام تصاعد أزمة حادة بدأت ترمي بظلالها على المنطقة منذ عام ونصف تقريبا. فمنذ تلك الفترة، عرف اليونان أزمة دين عام أضرّت به وأفرزت تداعيات خطيرة على مختلف المجالات الأخرى في البلاد: السياسية، الأمنية والاجتماعية. هذه المعضلة أثارت أزمة داخل الاتحاد الأوروبي بإثارتها اختلافات بين أعضائه حول كيفية التعامل معها. إضافة إلى ذلك، ومازاد من تأزم الوضع، هو أثر الدومينو الذي صاحب الأزمة، فخلال الفترة الماضية، عرفت اقتصاديات عدة دول أخرى في المنطقة، الضعيفة أساسا، نفس أعراض (المتلازمة) اليونانية كإيرلندا، البرتغال وإسبانيا، بأن وجدت نفسها عاجزة أمام تصاعد دينها العام والعائد أساسا إلى ارتفاع نسبة الفائدة بين فترة الاستدانة والفترة الحالية. ومؤخرا، عرفت إيطاليا، ثالث اقتصاد في منطقة الأورو، نفس الأعراض ببلوغ نسبة دينها العام 1900 مليار أورو. هذا ما جعل البرلمان يصوّت في ظرف قياسي على برنامج حكومي تقشفي مستعجل كإجراء وقائي للحيلولة دون تزايد خطورة الوضع. خطوة وصفت بالفعّالة في إطار التعامل مع مثل هذه الأزمات، هذا في وقت سيجتمع فيه وزراء مالية المنطقة بدعوة من رئيس المجلس الأوروبي يوم ال21 من شهر جويلية الجاري في قمة استثنائية لمناقشة مسألة التعامل من الأزمة الحالية والتي تعود أساسا إلى الأزمة اليونانية. حيث من المرجح أنه سيتم الاتفاق على إرساء مخطط إنقاذ ثان لليونان. وقد جاءت هذه القمة في ظروف جد حساسة تمرّ بها منطقة الأورو، ويعتبر النجاح في الاتفاق على عقد قمة بشأن هذا الموضوع مؤشرا على وجود إرادة صادقة لدى الأعضاء من أجل رسم معالم برنامج تسيير وعلاج فعّال للأزمة. وستكون الولاياتالمتحدةالأمريكية بدورها حاضرة في هذه القمة، لأن العملاق الاقتصادي لم يسلم هو الآخر من أزمة الدين العام، حيث أن الاقتصاد الأمريكي، الذي يعتبر أول اقتصاد في العالم، معروف بكونه صاحب أكبر نسبة دين عام في العالم التي بلغت 14000 مليار دولار. وبالتالي، فإن العجز عن تسديد ديونها واقع وشيك سيحتم عليها ضرورة التحرّك عاجلا من أجل علاج الأعراض وتفادي تفاقم الوضع الذي قد يؤدي إلى شلل الاقتصاد الأول عالميا. وقد بدأت الإدارة الأمريكية منذ الآن حملتها داعية مختلف الأطراف، ديمقراطيين وجمهوريين، إلى تبني مقاربة متوازنة من أجل التوصل إلى توافق حول قضية سقف الدين، حاله حال منطقة الأورو الواقعة تحت ضغط وكالات التصنيف التي تهدد بسحب تصنيفه في حالة جيدة. من جهتها، فإن منطقة الأورو وصلت تقريبا إلى مرحلة العجز في التعامل من أزمات ديون أعضائها. وما زاد من تعقيد الوضع هو اختلاف آراء عمالقتها: ألمانيا وفرنسا، فبينما تسعى الثانية إلى إتباع طريقة (عامة) بدعوة الأعضاء وكذا المتعاملين الماليين إلى زيادة نسبة المساهمة في مساعدة اليونان، تبدي الأولى ترددا واضحا في القيام بهذه الخطوة، مصرّة على وجوب تثبيت مسؤولية المتسببين في إيصال المنطقة إلى هذه الوضعية (المتأزمة) والتعامل بحزم معهم. رأي يؤكده فرانسوا هولاند، المرشح للانتخابات الأولية للحزب الاشتراكي، الذي أكد مؤخرا أن الطريق نحو معالجة أزمة منطقة الأورو يبدأ بتوافق فرنسي ألماني، هذا التوافق سيكون بمثابة تأكيد على التضامن بين أعضاء المنطقة تجاه المتضررين، خاصة اليونان، حسب ما أكدت عليه الأمينة العامة لذات الحزب بعد اتصالات أجريت مع عدة مسؤولين يساريين أوروبيين، الأسبوع الماضي، إستباقا للقمة الاستثنائية المقبلة. رسالة بعث بها اليسار الأوروبي إلى الأنظمة الأوروبية الحاكمة، داعيا إياها إلى إرساء روح التضامن في إطار المنظمة الأوروبية، لأن الأمر لم يعد يتعلق ببلد أو بضعة بلدان، بل بالعملة الأوروبية الموحّدة في حدّ ذاتها. وكمقاربة لعلاج الأزمة، رأى عدة يساريين أوروبيين بضرورة إرساء فدرالية وحكومة اقتصادية أوروبية، والسعي إلى الأوروبية. منطقة الأورو، اليوم، في وضع جدّ حرج، وأمام سيناريوهات معدودة، بين زيادة نسبة المساهمة في الإقراض أو بالأحرى المساعدة، تعليق عضوية اليونان في منطقة الأورو وعدتها لاعتماد عملتها الوطنية (الدراكم) مؤقتا (في ظل ذلك ساد اعتقاد أن قبولها في عضوية المنظمة كان خطأ)، أو انفجار منطقة الأورو، سيناريوهات تنذر كلها بعمق الأزمة الأوروبية. سيختار الأوروبيون لا محالة السيناريو الأقل إضرارا بالمنطقة، أي الأول حسب ما تمليه الأوروبية العليا، وهذا ما سيتأكد في قمة ال21 جويلية التي يعوّل عليها كثيرا في محاولة إخراج المنطقة من دوامة تعدّ الأخطر منذ تأسيسها عام 1999. فإلى أي مدى سيتجسّد التضامن الأوروبي المنشود في قلب المنظمة (النموذج) في معجم التكامل الدولي؟ وهل المصلحة الأوروبية العليا تملي ب (التضامن) مع الدول المتضررة، أم (الحزم) في التعامل مع أخطاء المراهقين؟ هل سنشهد تفكك منطقة الأورو، إما بعودة الدول الأعضاء إلى تبني عملاتها الوطنية كإجراء وقائي تفاديا لعدوى الأزمة، أوبانفجار المنطقة؟ وهل سيتم إعادة النظر في قبول طلبات الإلتحاق بالمنطقة مستقبلا؟ مما لا شك فيه، أن الأورو، العملة التي استطاعت انتزاع مكانة الدولار العالمية، يمرّ بأسوأ فتراته. والحديث عن إرساء فدرالية أوروبية وحكومة اقتصادية ورسم سياسات تعاونية أكثر فعالية بين أعضاء الاتحاد الأوروبي، قد بدأ يدور في أوساط اليسار الأوروبي كمقاربة ناجعة للخروج من الوضع الحالي وكذا تقوية المنظمة. وفي ظل عجز الأنظمة الحالية اليمينية أساسا عن إيجاد حلّ فعّال، هل ستمهد الأزمة الطريق أمام تقوية مكانة اليسار في أوروبا وبالتالي اعتلائه السلطة في دول المنظمة؟ وفي انتظار ما ستحمله الفترة القادمة من أجوبة، ليست بالوضوح الكافي حاليا، عن هذه الإشكاليات، يسود الترقب، الأوساط السياسية ، الاقتصادية والاجتماعية، ليس في أوروبا فقط، بل في مختلف أنحاء العالم، في ظل أزمة تعصف بنموذج التكامل الاقتصادي والنقدي وتهدد العملاق الأمريكي. فهل سنشهد فترة انهيار الإمبراطوريات الاقتصادية التقليدية وريادة قوى اقتصادية جديدة كالصين أساسا (المستفيد الأكبر من الوضع الحالي) على الساحة الاقتصادية الدولية.