يساهم الاشتغال في حقل الإنتاج الفكري بتعزيز احترام الحقيقة والآخر، ويحتاج تطوره إلى حوار فكري عقلاني، لكن هذا لم يكن متاحاً في إطار المجتمعات العربية، إذ بقي مرهوناً لجملة من العوامل الكابحة للتطور، منها ما هو ذاتي داخلي يتعلق ببنية ذات الفكر وبنية السلط السياسية والبنى الاجتماعية ووعيها السائد، وأخرى ترتبط بعوامل معرفية علمية غربية كان لها دور في تأطير بنية الفكر العربي، وضبط منحنيات تطوره وآليات التفكير وفق مذاهب ومنهجيات معرفية محددة. وأخرى سياسية خارجية اشتغلت على توسيع دائرة تأثيرها من خلال نشر أشكال من الوعي، الذي يكرّس تحويل الإنسان إلى سلعة وموضوع للبحث والاختبار وفق منظور وآليات حركة رأس المال والأسواق التي تتحدد فيها قيمة الإنسان من منظور الحاجة القائمة على العرض والطلب.
ومن المعروف أن تاريخنا المعرفي شهد قمعاً سلطوياً ضد أي فكر جديد يخالف فكرها السلطوي الأيديولوجي، بينما الطبيعي أن يكون الحوار العقلي مرتبطاً بالحرية الفكرية، وهذا يستوجب رفض التعصب وفرض الرأي بآليات القوة القهرية، كونه يلغي الآخر ويخالف نواميس الطبيعة والحياة الفطرية. فالاعتقاد بامتلاك الحقيقة المعرفية المطلقة يشكّل المدخل الرئيسي إلى الأحادية القهرية التي كانت من سمات تاريخنا الثقافي، والتي ولّدت على الدوام قامعي الحريات العامة والأساسية، وبشكل خاص الحريات الفكرية، كونها تهدد من وجهة نظر الحكام أركان أنظمتها التي تأسست على الأحادية، فكانت هذه السلطات تجمع في سياق سيطرتها بين أدوات القوة القهرية، والأيديولوجية التي يدعّم أركانها مثقفون ينحصر دورهم في الدفاع عن ممارسات السلطة في مصادرة الحريات وهدر دماء المفكرين المخالفين. في شرط الممارسة المعرفية إنّ الخوف من السّلطة والخنوع لها، كان نتيجة إدمان السُّلطات على استعمال القمع المركب المقونن والممنهج. وبسببها تحوّلت المجتمعات العربية إلى عوالم خاوية من الفكر الحر والمستقل عمّا هو سائد ووافد، فاستمرار القمع حوّل التقيّة والخوف إلى جزء من بنية الإنسان العقلية، فكان الخوف والإنسان متلازمان. وتحديداً لمن حاول الاشتغال في حقل الإنتاج المعرفي، فكان اشتغاله على وضع الحدود والضوابط الذاتية يطغى على إنتاجه الفكري، تحاشياً لتأويلات السلطات وغضبها. فكان إنتاجه المعرفي يفتقر إلى العمق، ويكتفي بالحدود الدنيا من النقد والتحليل والتركيب، إضافة إلى اعتماده الأساليب الملتوية والتسطيح، وكان هذا من الأسباب التي جعلت المفكر العربي يقف دائماً على عتبة الإنتاج المعرفي، دون تجاوزها. فكان أغلب الإنتاج المعرفي متشابهاً ونمطياً، يدور في فلك التقليد والتبعية، ومساهماً في رفع السلطة والمتسلط إلى حدود التقديس، وأيضاً بقيت تسيطر عليه آليات ومنهجيات الفكر الغربي، فكان المفكّر ينوس بين القديم المهيمن وعتبة الجديد الذي يحمّله اقتحام أسراره نتائج كارثية. وصفحات التاريخ العربي تعجّ بكثير من شهداء وضحايا الفكر (ابن المقفع، غيلان الدمشقي، الجعد بن درهم، الحلاج، السهروردي، ابن رشد، الذي كانت مواجهته مع أبي حامد الغزالي نهاية حقبة الاجتهاد، ناصر السعيد، نصر حامد أبوزيد، السيد القمني، فرج فوده، مهدي عامل، حسين مروّة...)، ومن المعلوم أن الإنتاج المعرفي والتأسيس النظري يظل عملاً متنافياً مع العقل، طالما بقي مشدوداً إلى لحظات الولادة الذهنية الأولى التي لم تزل تقبض معرفياً على تلابيب الحاضر. ونشير إلى أن معظم المحاولات الفكرية للخروج من العطالة النظرية، انتهت إلى الفشل، فكانت أشبه بالحنين إلى البدايات في لحظة اغتراب عن الحاضر، فكانت عقلانيتنا انبهاراً بالآخر ومصالحة مع الموت التاريخي، ونفخاً في رماد الثقافة القديمة، في سياق المزاوجة بين الأبوية والأحادية القهرية، فتحوّل الإنسان المُغرّب عن المعرفة والواقع إلى مومياء عديمة الروح. النّقد كونه مدخلاً للتّطوّر الفكري إنّ المدخل إلى تطور الفكر يبدأ من نقد المفاهيم والقضايا والمقدمات النظرية والمنظومات المعرفية التي ساهمت في تشكيل البنى الفكرية والمعرفية العقلية والذهنية، والبنى الاجتماعية وأشكال الوعي، لكن هذا لم يأخذ مساره الطبيعي نتيجة تشوهات وانحرافات سياسية ودينية واجتماعية أعاقت التطور الفكري، وحرمت المجتمعات العربية من تشكّل مناخات مناسبة لنموالإبداع المعرفي والنظري، إذ كانت الأحادية بكل أشكالها هي السمة السائدة. ومن المعلوم أن الأحادية والاستبداد وجهان لعملة واحدة، وقد ساهمت هذه العوامل في ضبط وتحديد الإنتاج الفكري والمعرفي في إطار إعادة إنتاج الواقع، والتكرار المفتقر إلى المقومات الحقيقية للإنتاج المعرفي، والعجز عن نقد الأسس التي تشل طاقات المجتمعات العربية، بينما تجليات التحنط في الماضوية وتلوينات سحق الإنسان تتم انطلاقاً من توظيف دلالات ومعاني المفاهيم المطلقة التي يهيمن شبحها على فضاءات تفكيرنا،فكان مهد الكلمة الأولى سجناً لطاقات المجتمع في قفص العقل الأحادي القهري. فالنقد حتى يكون جذرياً يحتاج إلى تحليل وتفكيك ودحض ونقض الأسس التي يتم عليها بناء أشكال الوعي السائد، والبنية الذهنية والعقلية والمعرفية التي تتحكم في خطابات المعرفة وتؤسس للممارسة النظرية. والنقد الفكري بهذا المعنى يجب أن يكون بمثابة نقض للمنهجية المعرفية التي تأسست على الحتمية التاريخية والمفاهيم ذات الدلالات المطلقة، التي كان لها الدور الأساس في تحنيط الفكر في المذهبية واللاتاريخية. إنّ نقد مقدمات الفكر ومدلولاته اللغوية المقدسة يشكّلان مدخلاً لكل نقد فكري جذري، يخلخل الأسس التي تقوم عليها أنظمة القمع والاضطهاد، ويشكّل بوّابة عبور إلى تأسيس فقه لغوي جديد متحرر من المعاني المحنّطة، وقادر على حمل مفاهيم التغيير الاجتماعي والتعبير عنها في سياق التطور المتسارع، ومنفتح على آفاق حركة تطور التاريخ. وهذا يحتاج إلى تغيير جذري للبنية النسقية للمعرفة، وإلى إدراك المفهوم في سياق الحركة المفتوحة على التطور التاريخي. مرجعيات المفكّر العربي إنّ الإبستمولوجيا التي تندرج في سياقاتها عمليات الإنتاج المعرفي، لم تقطع مع المرجعية النصية المتعالية على الواقع والمجتمع. كذلك لم يستطع غالبية المشتغلين في الحقل المعرفي التخلص من العقائدية الأبوية المكرّسة لاستعادة الأصولية التقليدية في أثواب دنيوية جديدة ومتجددة، ليبقى الفكر يجاهد عبثاً في العثور على مقدمات تفكير منهجي يتناول الواقع في سياقه المتحرك، لذلك كان يعيد إنتاج زمن العقائد والأيديولوجيات المغلقة، والتي تدور حول ذاتها. إنّ إشكالية الفكر في نزوعه إلى مقدماته الأولى (دينية، فلسفية، أيديولوجية، عقائدية) لم تزل تتموضع في حقل المنهجية المتمسكة بالبدايات المعرفية النصية النابذة على قاعدة الانغلاق، كل أشكال الحريات الفكرية، ليبقى الفكر السائد نهراً يهدر بكل صنوف الإدانة والتخوين، ومستغرقاً في ذاته عنفاً رمزياً يترجم سياسياً بأشكال سلطوية. إنّ الاستقلال في التفكير شرط من شروط الإبداع، ومدخل ضروري للمشاركة الفعلية في إنتاج المعرفة في سياق تجاوز عتبة التأريخ أواتباع أحد المذاهب الفلسفية. والاستقلال لا يعني الانغلاق على الذات والتمحور حولها، بل يعني الانفتاح النقدي على تاريخ الفكر الإنساني والتفاعل والمشاركة الإيجابية التي تتميز بالحرية والمسؤولية. وهذا يفترض رفض التبعية، كونها تبعد المفكر عن الاستقلالية الفكرية، وتجعل شروط الإنتاج المعرفي غائبة. إنّ تجاوز عجز الفكر العربي المعاصر يستدعي إدراك الخصوصية التاريخية للفلسفة العربية بكونها تمثّل لحظة تقاطع وتواصل مع الفكر الإنساني، ويستوجب استئناف القول الفلسفي وتجاوز التأريخ والنقل إلى التأليف المبدع. ومن الضروري أن يرتكز التأصيل والتأسيس النظري على نقض النص المتعالي على التاريخ واللحظة، انطلاقاً من نقد القضايا والمفاهيم والأنساق المعرفية المتبعة. إنّ هذا التحوّل يجب أن يشكّل مدخلاً إلى حوار فكري مفتوح يساهم في إنتاج نظرية معرفية تتعين في سياق حركية اللحظة وتطورات الواقع المتغير. ثقافتنا والحداثة لم ينتج الفكر المعاصر نقداً جذرياً للثقافة العربية والوعي انطلاقاً من نقض مقدمات وبدايات الفكر العربي، الذي ما زال مشدوداً إلى الثقافة الوافدة وألق الكلمة الأولى، ومتصالحاً مع المعطى والسائد، فكان ترميماً للذاكرة ومهادنة للحظة التراجع العربي الذي يشهد تكاثر الأصوليات، فسقط في نزعات الإصلاح الفكري التي تطيل من عمر الثقافة السائدة. إن جوهر الحداثة أنسنة لا تمذهب، تفكيك للمطلق لا إعادة إنتاج له، لكن لغتنا الحداثوية لم تكن إلا إعادة إنتاج للمطلق الأحادي في عباءة علمانية، فتحولت إلى أيديولوجيا لتكريس النزعات الأحادية وإنجاب الجلادين الذين خنقوا الحياة وسحقوا الإنسان، وليس هذا وحسب، بل تحولت إلى أيديولوجيات مذهبية محمولة على نخب ثقافية وسياسية اشتغلت على اعتقال العقل في أنماط معرفية مغلقة. فالفكر بهذا المعنى لم يكن مصدراً للإبداع، بل لغة لاستعباد الذات واستبعادها عن دائرة الفاعلية، فكان عاجزاً عن تحرير الطاقات الإبداعية من أسر المعرفة التقليدية القائمة على الأحادية وسيادة القمع المتدثر بعباءة المعاني الإطلاقية. وهذا يوضّح تقليدية الثقافة الخاضعة لسلطة النموذج والمعيار، ويوضّح أيضاً أسباب إعادة إنتاج الفكر المحنّط خارج تاريخ الإبداع. وبما أن الفكر العربي لم يتأسس على نقد جذري وقطيعة معرفية مع السائد، فإنه كان على الدوام يعيد إنتاج زمن الأحادية الشمولية والأنظمة المغلقة، بذلك لم تكن الحداثة إلا انتصاراً للمرجعيات والأنظمة الفكرية والسياسية الأحادية. والحداثويون بهذا المعنى خلعوا الجبة العلمانية المعاصرة على البنية العميقة للفكر العربي السائد، في لحظة كان الإنتاج المعرفي يحتاج إلى دراسة نقدية لأسباب ومقدمات الاستبداد والشمولية وأسباب حضور المقدس فيهما وفي قاع بنيتنا الذهنية. مآلات إنّ إدراك المذاهب الفلسفية في ضوء لحظتها ومواجهتها بالنقد المنطقي والسوسيولوجي، يحتاج إلى التحرر منها والانتباه إلى الإشكاليات الخاصة للحظة التي يعيشها المشتغل في حقل الإنتاج المعرفي. وهذا يشكّل أحد شروط الاستقلال الفكري، في سياق تحديد وضبط العلاقة بين العلوم الإنسانية (الابستمولوجيا، الفلسفة) وتطورها المرتبط بدراسة الواقع الملموس والتأثير عليه وصولاً إلى تغييره. لقد بات من الواضح أن خروج لغتنا الثقافية ومنهجيتنا التحليلية وممارستنا النظرية عن أبجديات الوعي السائد المتصالح مع لحظته يشكّل المقدمات الأولى لدخول العصر. والأجدر بنا ونحن نعايش خروجنا من مشهد العالم الحي والمتحرك أن ننتبه إلى أن قدر الثقافات التي تحرس معابدها القديمة لن يكون إلا نكوصاً للتاريخ والعودة إلى رحم الكلمة الأولى التي تقبض على كوامن عقولنا، وهذا يقتضي تحرير المعنى من المسبّقات، والتحرر من سلطة النموذج والقياس والوصاية. ومن الممكن أن يساهم هذا التحوّل في تأسيس وعي جديد ينقذ الإنسان من مكر التاريخ وأثقاله، ويخلص الثقافة من لغة المستبد والمطلق والماضوية والتقليد، ويجعل منها فكراً يسائل المكبوت ويفضح المغيّب في ذواتنا بفعل هيمنة منظومات الإخضاع التاريخية. فالمثقّف عموماً لم يسلك حتى اللحظة دروب المستقبل، ولم يجعل من الفكر الحر والمبدع هوية جديدة لفتح آفاق الحرية والكرامة والإبداع، بهذا فإنّه يساهم في الدفع إلى الانغلاق داخل أسوار الذات الموروثة. وفي كنف الزواج المقدس بين السلطتين الدينية والدنيوية، فإن الفكر يتحول إلى نشيد بجعة لا يرتفع صوتها بالغناء إلا لحظة احتضارها، وفي لحظة الانهيار لن يكون المخرج إلا بمواجهة البنية العقلية والذهنية للأيديولوجيات الشمولية والأصوليات المذهبية والعرقية. وتفعيل العقل العقلاني الموضوعي المتحرر من عقد الماضي ومن هيمنة الفكرة العابرة للتاريخ والمتعالية عليه، وعلى تفكيرنا الذي كانت مشيئة من يدّعي حماية التراث إغلاقه على ذاته، خوفاً من انفتاح آفاق العقل الحر على المستقبل. وكيفما كانت محاولات فرض هيمنة الماضي واستعادة إنتاجه، فإن مستقبل المجتمعات العربية يتحدّد في أحد جوانبه بقدرة النخب السياسية والثقافية على تخليص الحاضر من سيطرة الماضي الذي يشل إمكانيات التطور، ويساهم في ازدياد الفجوة المعرفية بيننا وبين الغرب. وما دام العقل العربي المعاصر ممنوعاً باسم الدين والأيديولوجيات الشمولية والتقاليد من التحليق في آفاق حرية التفكير، فلن يتاح لنا أن نسبر آفاق المستقبل، ولا حتى أن نسير في الدروب التي سلكتها الشعوب التي استطاعت تحقيق التقدم. إن التمسك بتطبيق معايير النص المغلق أيديولوجياً على الحاضر أمر منافٍ للعقل. فالأصل في الأشياء التنوع والحرية وليس التماهي والتطابق مع الفكر الأحادي، الذي يعمل على تأبيد سيطرة السلط الأيديولوجية الشمولية.