تناولت الروائية قصة حب بين طالب وطالبة يدرسان في الجامعة، محاولة تحليل تلك العواطف الجياشة التي تسكن الصدور، تنبض بها القلوب، تتشرخ لها الأضلع، حاولت وصف تلك المشاعر المتلاطمة كموج البحر، حاولت تحليل كيمياء تلك العواطف في هدوئها الصاخب، وصخبها الهادئ، كيف تتحول إلى زوبعة روحية يعمي غبارها البصيرة في بعض المواقف، كيف تنزلق أقدام أبطالها على شفى جرف هاوية، مع ذلك حلمهما بالسماء كان أكبر مِن حجم السماء. «ليل» هو اسم البطلة، بكل ما تحمل هذه الكلمة من إيحاء بظلمة الليل، التي ستعيشها مع قروب نهاية الرواية، ربما هي جميلة كليل لكنه بلا قمر، غير مرّصع بالنجوم، هو حالك مثل قصتها. «طيف» هو بطل القصة الثاني، بكل ما تحمل هذه الكلمة من إيحاء الطيف الخاطف، الذي مَر ذات صدفة بسماء ليل ليضيئها كالبرق الوامض، لكن لم يترك لها الوقت الكافي لتستمتع به، وينير لها درب روحها، طيف خطف بصرها ليتركها في ظلمة حالكة، هكذا تعانق طيف مع ليل دون احتكاك جسديهما، احتكت روحيهما كالموجب والسالب الذي ينتج الشرارة، كانت علاقة متينة كلها عواطف سامية أصفى من الصفاء، أنقى من النقاء. التأجّج المشاعري وهالة نورانية حالمة اجتهدت الكاتبة في ابراز ذلك التأجج المشاعري بعيدا عن الجسد، لتضفي على ذلك الحب هالة نورانية راقية حالمة، في جو من الرومانسية الشفافة، رقيقة كأجنة الفَرَاش فوق ورود الربيع، وتشاء الصدف أن تسافر ليل إلى فرنسا رفقة أستاذتها بعد أن أرسلتهما الجامعة في بعثة، لتتحول الرواية إلى نوع من أدب الرحلة، حيث أخذت الرحلة عدد كبير من صفحات الرواية، وهي تصفها في مدينة الجن والملائكة، بما فيها من متاحف مشهورة ودُور ثقافية ومسارح كبيرة، وقد مزجت كل تلك الأماكن والرحلة بعواطف ومشاعر ليل، وهي تعيش لواعج ذلك الفراق المؤقت وأشواق مشتعلة، رغم ذلك التواصل الذي كان بينهما، من ذلك الوصف الدقيق وذكر أسماء بعض المرافق الثقافية نشعر أن أحداث الرواية قد حدثت وواقعية. المدينة في حواضر الأمم بين الأمس واليوم أثناء زيارة متاحف باريس، تساءلت الروائية عن عدم وجود تحف إسلامية بكثرة رغم حضارة المسلمين الراقية، بالمقارنة مع تحف الحضارات الأخرى، ردت سبب ذلك إلى الشريعة التي تحرم بعض الفنون كالرسم والنحت، كما استطردت بقصة صغيرة لها علاقة مع صلب موضوع الرواية، متمثلة في ذلك الإرهابي المتخصص في ذبح السبايا أثناء العشرية السوداء، كان يذبح بسهولة وبرودة تامة، عندما وصل إلى تلك الفتاة وجدها تلك التي أحبها قبل التحاقه بالجماعة المسلحة، فهاجت مشاعره ليسقط السكين من يده، كيف يذبح حبه؟ وهو ذلك الذباح الماهر الشرس، تظاهر بذبحها لكنه لم يفعل، نرى كيف تغير صدق العاطفة سلوك الإنسان، وترد له إنسانيته وتسقط ما علق به من وحشية باسم الدين. تصوير مشاعر خيالية بحرفة أدبية راقية أثناء تواجد ليل في باريس، عرض عليها طيف الخطوبة بعد عودتها، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، بعد اعتراض الأهل على الخطوبة، لكن رغم ذلك تَتِم، ويَتم فسخها بعد وقت قصير، ولا تذكر الكاتبة السبب الحقيقي لذلك، تعمدت أن تخفيه على القارئ، لتصف لنا الحرائق التي أصابت صدر ليل بعد ذلك الفراق المحتم، مع ذلك تتزوج برجل آخر تحت ضغط الأهل، لتكتشف بعد زواجها أن طيف تعمّد فراقها رغم حبه الشديد لها، السبب هو إصابته بمرض عضال سيوصله إلى المقبرة بعد وقت وجيز، وهو لا يريد أن يتركها لوحدها بعد وفاته، ولك أن تتصور أيها القارئ المشاعر التي عاشتها ليل بعد زوجها من رجل تمنحه جسدها وقلبها عند رجل آخر (طيف) وتكتشف السبب الحقيقي الذي فارقها من أجله حبيبها، أبدعت كثيرا الروائية في وصف وتشريح تلك المشاعر والعواطف المتأججة بحرفية أدبية راقية، خاصة بعد أن تعقدت عقدة الرواية وتشعبت أطرفها وصار من الصعب على القارئ التوقف عن مواصلة القراءة، ليجد نفسه وكأنه يلتهم أوراق الرواية، ويتمنى أن لا تنتهي من تعمق وصعوبة الموقف، وأسلوب الروائية الذي ربط وجدان القارئ بأحداث الرواية بسردها المشوق والممتع والمؤلم في نفس الوقت. عندما تُبدع المرأة بصدق في مجتمع ذكوري سلطت الكاتبة الضوء على ثنائية الجسد والعاطفة، فهى ترى بعدم جواز لقاء الجسدين رغم تأجج العاطفة والرغبة الملحة في اللقاء، ترجع ذلك الضمير والدين والعادات التي يتمسك بها المجتمع، هنا يظهر لنا جانب من شخصية الروائية وفكرها المحافظ، وتمسكها بالقيم العليا، تذهب إلى أبعد من ذلك في اضفاء الكثير من المثالية على ذلك الحب، إلى أن كاد أن يكون حب أفلاطوني الذي يهتم بالروح فقط مع إغفال الجسد، كأن لا علاقة له بالروح، السؤال المطروح، هل ممكن أن يتحقق مثل ذلك الحب؟ والإنسان من تراب وليس من الملائكة. نحترم رأي الروائية خاصة أن ما ذهبت إليه فيه فلسفة تمتد جذورها في تاريخ الفكر البشري، وللقارئ حرية إبداء الرأي حتى وإن كان مختلف. من جهة أخرى، صعب جدا أن تكون المرأة مبدعة في مجتمع ذكوري كمجتمعنا، الذي لا يسمح لها بالتعبير عن أبسط مشاعرها، فما بالك أن تعبّر عنها كتابيا وفنيا، وتحلل رغبات الجسد النائمة، لهذا المرأة المبدعة عندنا تلجأ إلى ما يسمى البتر أو الحذف، بعضهن يكتبن ثم يمزقن ما كتبن، بعضهن يخفينه خوفا من كلام الناس فيهن بعد قراءته، صعب جدا أن تكون أنثى في مجتمع يمجد الذكورة، كما لوّحت كذلك على سيطرة الأهل على أبنائهم في قضية زواجهم، ونقدها بطريقة غير مباشرة لنظرتهم على أن الزواج هو ستر للجسد فقط، دون مراعاة الجانب النفسي الوجداني منه، هنا نلمس جيدا تلك الثنائية أو المفارقة العميقة التي شرّخت مجتمعنا إلى القاع، حب بلا جسد، أو جسد بلا حب، كأن هناك تطرف بينهم، ومن الصعب الجمع بينهم مع أن الإنسان في حاجة إلى كليهما ويمكنه توحيدها ليصل إلى ذلك التوازن المنشود. أحداث.. دون قفز على الزمن الرواية محكمة في بنائها، أحداثها متسلسلة تسلسل منطقي، لا يوجد فيها القفز على الزمن، أو الزمن الملتوي، ولا فراغات سردية، الاستطراد فيها قليل جدا، إذ سرعان ما تعود الروائية إلى أصل روايتها، امتاز أسلوبها بالتشويق لِما سيحدث من أحداث، وتعمدت إخفاء بعض نقاط مهمة في السرد لكن في الأخير يدرك القارئ لماذا أخفتها، لتجعلها كمفتاح في النهاية وتتضح الرؤية في ذهنه ويدرك عمق الطرح الذي سطرت له الروائية، هي طريقة لجذب انتباهه وأثارت مشاعره وتفجير عنصر الدهشة في أعماقه، لم يحتو السرد على صور بيانية بلاغية، وإن وُجدت فهي قليلة وتأتي بطريقة عفوية، الروائية كان همها أن تسرد روايتها، كأنها كانت تخشى توقف تدفق سردها العفوي الرقيق، لهذا تتحين أوقات إلهامها لتكتب تحت تأثير تلك اللحظات المفعمة بعبير مشاعرها هكذا وصلت، بل اخترقت وجدان القارئ وهزته من العمق، لهذا في نظري لم يعنيها كثيرا تزويق الكلمات ولا زخرفة العبارات. الرواية كتاب من الحجم المتوسط، يحتوي على 143 صفحة، طبعة الجاحظية للنشر، على غلافه لوحة فنية أكيد لصاحبة الرواية التي تمارس فن الرسم.