يفصل الشعب «صاحب السيادة»، اليوم، في موقفه بخصوص مشروع تعديل الدستور المطروح للاستفتاء الشعبي. ويكون عليه الاختيار بين ورقتين «بيضاء» تنقله إلى جزائر «التغيير» دولة المؤسسات وكل الجزائريين، أو»زرقاء» تبقي على الدستور الساري. يكون الشعب الجزائري «صاحب السيادة»، اليوم، على موعد مع استفتاء «تاريخي» و»استثنائي»، أرادته القيادة العليا للبلاد أن يقترن بذكرى اندلاع الثورة التحريرية، ليكون حلقة ربط بين ماضي مجيد كتب بدماء زكية طاهرة من طرف مجاهدين وشهداء في معركة ضد أكبر قوة استعمارية من أجل التحرير، ومستقبل مشرق يتطلع لرسم معالمه جيل رضع من الوطنية والقوة والشهامة ما يكفيه لشق طريق التغيير. استفتاء يحدث القطيعة مع ممارسات انتفض بشأنها شباب الجزائر يوم 22 فبراير 2019، وكافح أشهر بكل الشعارات والكلمات لاسترجاع سيادته، وحقه في تأسيس دولة المؤسسات والقانون، ويعيد الهدوء لبلد أنهكته الصراعات وقضايا فساد، تورطت فيها أطراف صادرت حق الشعب، وعدلت الدستور أكثر من مرة، متجنّبة طريق الاستفتاء الشعبي حتى تبقى في سدة الحكم لكنها فشلت في مسعاها. البدايات الأولى لدساتير الجزائر ارتبطت دساتير الجزائر السابقة برؤساء الجزائر، فبعد عام من استقلال الجزائر، ولد أول دستور للجزائر في عهد الرئيس الراحل أحمد بن بلة يوم 8 سبتمبر 1963 وكان «اشتراكيا» صادق عليه المجلس التأسيسي، رغم أنه لم يناقشه، ثم عرض للاستفتاء الشعبي وحظي بالموافقة ليصبح أول دستور في تاريخ الجزائر المستقلة. وعرفت الجزائر ثاني دستور لها، بتاريخ 19 نوفمبر 1976، ألغى دستور 1963، ووضع الرئيس الراحل هواري بومدين من خلاله نظاما رئاسيا واضحا في إطار الحزب الواحد جبهة التحرير الوطني، ولكنه أكد على خيار الدولة الاشتراكية. أما في سنة 1989، فقد عجلت أحداث أكتوبر 1988 بميلاد دستور جديد في 23 فبراير سمي ب»دستور التعددية»، تخلى فيه الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد عن النظام الاشتراكي، والحزب الواحد المهيمن على الدولة، وأقر التعددية في البلاد، بفتح المجال لإنشاء الجمعيات ذات الطابع السياسي (الأحزاب) ووسائل الإعلام (صحافة مكتوبة). ومع مجيئ الرئيس اليمين زروال بعد انتخابه رئيسا للبلاد في 16 نوفمبر 1995، قاد الجزائر إلى تبني دستور جديد، تم الإعلان عنه في صيف عام 1996، واعتمد دستورا للجزائر عن طريق الاستفتاء في 28 نوفمبر 1996، حيث عمل على تقوية السلطات الرئاسية وأسس لأول مرة برلمانا من مجلسين. وتوالت بعدها سلسلة تعديلات دستورية في 2002، 2008 و2016، في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، ولكن دون أن تحترم السيادة الشعبية، تجسيدا لمبدإ «الشعب مصدر السلطات». وغيّب الشعب عقودا أخرى منذ إشراكه في استفتاء 1996، واكتفى بتمرير التعديلات التي مست الدستور على البرلمان، رغم أنها مست المبادئ العامة التي تحكم المجتمع. وقام في التعديل الأول بدسترة الأمازيغية كلغة وطنية تعمل الدولة على ترقيتها، وقام في التعديل الثاني بفتح العهدات الرئاسية، ليتراجع عنها في آخر تعديل سنة 2016 والعودة إلى نظام العهدتين كما كان في دستور 1996، بالإضافة إلى ترقية الأمازيغية إلى لغة رسمية وإلغاء أي عقوبة سالبة لحرية الصحفي. دستور 2020... الاختلاف والتميز يختلف الاستفتاء الشعبي على مشروع تعديل الدستور، المقرر، اليوم الفاتح نوفمبر 2020، عن استفتاءات الجزائر السابقة، فهو التزام تعهد به رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون في حملته الانتخابية، وحرص على أن يكون «دستور الجزائريين» وليس «دستور شخص أو جهة معينة يخدم مصالح ونزوات الأشخاص» ووفّى بوعده بعد انتخابه من طرف الشعب، بعد أن جعل من مسودة مشروع تعديل الدستور التي أعدتها لجنة خبراء مختصة. «وثيقة توافقية» ساهمت مختلف الأحزاب والجمعيات والمنظمات والهيئات والشخصيات في إثرائها، وشهدت أكبر عدد من اقتراحات التعديل تجاوزت 5 آلاف مقترح، مست كل المحاور التي شملها التعديل العميق، فضلا عن أن النقاش الخاص بها شمل، لأول مرة، فعاليات المجتمع المدني، بعد أن اقتصرت في السنوات الماضية على الأحزاب السياسية. ويعيد استفتاء 1 نوفمبر 2020، بعد نحو ربع قرن من آخر استفتاء على مشروع تعديل الدستور، السيادة للشعب ك «مصدر السلطة»، لتمنح له حرية إبداء الرأي والفصل في شكل ومحتوى الوثيقة الأسمى التي تحتكم إليها البلاد، ما سيضفي «الشرعية» على هذه الوثيقة، عكس سابقاتها التي مررت على البرلمان . ويقول أستاذ العلاقات السياسية والدولية الدكتور إدريس عطية ل»الشعب»، أن هذا الاستفتاء «مميز جدا»، لأنه يطمح لاعتماد دستور جديد يسمح لنا بالدخول في الجزائر الجديدة، من خلال إعطاء فرصة للشعب الجزائري واحترام الإرادة الشعبية من خلال هذا الاستفتاء. ويعتقد الدكتور عطية، أن استفتاء 2020 يختلف كليا عن جملة الاستفتاءات السابقة، وذهب إلى أبعد من ذلك، حينما شبهه ب»استفتاء جويلية 1962»، وفق مبدإ تقرير المصير لاستقلال الجزائر عن فرنسا الاستعمارية، لأنه سيفتح المجال للعديد من الإصلاحات السياسية والإدارية والمالية تحت شعار «نوفمبر التحرير 1954، نوفمبر التغيير 2020». أما المختص في القانون الدستوري عامر رخيلة، فيرى أن ما يميز الاستفتاء الشعبي على مشروع تعديل الدستور في الفاتح نوفمبر 2020، أنه ليس الأول في تاريخ الجزائر، عكس دستور 1963، لكنه يأتي في ظرف مغاير، تمكنت الجزائر فيه من بناء مؤسسات دستورية وتشكيل وعي واهتمام بالمادة الدستورية على مستوى الشارع، بفضل الحوار الذي أتاح للكثيرين، بمن فيهم ملايين الطلبة الجزائريين، فهم النظم السياسية والدستورية. وهو «الشيء الإيجابي» في نظر رخيلة، لأنه جمع وجهات نظر عديد ومختلفة حول وثيقة المشروع، بهدف تكريس الحريات الدستورية، التي تعد «مقدمة الغايات» في مشروع تعديل الدستور، حيث أطنب المشروع في ذكر الحريات وحقوق الإنسان، مما يجعلنا نقول «إننا نعيش مرحلة متميزة تستوجب دستورا متميزا». وبما أن مشروع تعديل الدستور حمل «تعديلات عميقة» على دستور 2016، استوجب عرضه على الاستفتاء الشعبي، باعتبار أن الشعب هو المؤسس الدستوري الأول، وفي حال ميلاده، اليوم، وإصداره من طرف رئيس الجمهورية بمرسوم رئاسي عقب المصادقة عليه من طرف الشعب، سنكون أمام «دستور مميز يستجيب لتطلعات الشعب». تأثيرات ليست فاصلة رافقت عملية التحضير لمشروع تعديل الدستور ظروف داخلية ميزتها الاحتجاجات الشعبية التي أطاحت بقوى غير دستورية، حاولت الاستيلاء على مقاليد الحكم، بطرق غير شرعية، وطالبت بوقف ممارسات سياسية عطلت الدستور والقوانين وتجاوزت المؤسسات الشرعية. وتبنى رئيس الجمهورية عقب انتخابه رئيسا للبلاد، مطالب الحراك الشعبي وغلب الكفة لصالح خيار المسار الدستوري لضمان استقرار واستمرار الدولة، خاصة وأن الجزائر يحيط بها «حزام ناري» على طول الشريط الحدودي ومن كل الجهات، بسبب عدم الاستقرار الأمني في دول الجوار، وامتداد خطر المد الإرهابي العالمي. ويرى الخبير الدستوري رخيلة، أن مشروع تعديل الدستور - نوفمبر 2020 - مر في ظروف داخلية تأثرت بالبيئة الخارجية والمحيط الدولي، ولكن لم تكن الفاصل أو الحاسم فيه، لأن المشروع الدستوري يتعلق بتنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية والبناء المؤسساتي ورسم خارطة سياسية في الجزائر تنظم السلطات، المبادئ العامة التي تحكم المجتمع والحريات، ولذلك الشعب الجزائري سيكون السيد في إقرار ما يراه مناسبا من مبادئ في الدستور الجديد، وفي النهاية الدستور لا يسمو على المواثيق الدولية، ولذلك المبادئ التي يتضمنها الدستور ستطبق داخل الجزائر. ومادامت جزائر 2020 عضوا في كثير من التنظيمات الإقليمية والدولية، منها جامعة الدول العربية، اتحاد المغرب العربي، الاتحاد الإفريقي، من الحكمة، بحسب رخيلة، «أن يكون الجيش الجزائري، مشاركا في عمليات حفظ السلام في إقليم تنتمي إليه الجزائر»، خاصة وأن المشرّع ربط مشاركته بموافقة السلطة التشريعية وموافقة ثلثي أعضاء البرلمان. وأكثر من هذا، الجزائر في ظل عدم وجود هذه المادة في الدستور، لا يمكنها المشاركة في عمليات حفظ السلام، رغم أن أي عضو من المجتمع الدولي ملزم، طبقا لميثاق الأممالمتحدة، بالحفاظ على السلم والأمن العالميين والمساهمة في إقراره، ولذلك إدراج هذه المادة في الدستور الجديدة تعطي الشرعية الدستورية لمشاركة الجزائر في أي نشاط يكون في إطار حفظ السلم والأمن، لاسيما على مستوى قارتي إفريقيا وآسيا.