رائعة «صحّ عيدكم»... خالدة وجدّ معبرة عن المناسبة تمر الذكرى الثالثة والأربعون لأحد أعمدة الفن الجزائري الفنان الكبير عبد الكريم دالي، هذه الشخصية التي تعد من بين أجمل وأروع الأصوات الجزائرية التي مازالت الأذن الجزائرية تطرب لسماعها رغم رحيلها. شخصية برزت في الموسيقى الجزائرية، هذا الفنان الذي تألق منذ صباه ودوى صوته كثيرا في ربوع الجزائر ومناطق المغرب العربي ومعظم البلدان العربية التي كان يزورها في المهرجانات الثقافية الجزائرية. إنه الفنان الكبير والمطرب الساحر الذي كان يسحر ويأسر كل من يستمع إليه والذي عرف كيف يحافظ على تاج أروع مغني عرفته الساحة الفنية الجزائرية. كما يعد أستاذا محنكا في موسيقى الحوزي، على عكس العديد من الشيوخ، لأنه اجتهد في تلقين الجيل الصاعد موسيقى التراث. ولد الفنان عبد الكريم دالي في 11 نوفمبر عام 1914 في الحي العتيق «حارة ارما» بشارع الموحدين بتلمسان، في وسط عائلي يعشق الموسيقى، حيث نشأ وترعرع وسط عائلة مولعة بالفن والموسيقى، والده كان تاجرا بسيطا وتابع منذ سن الرابعة تمدرسا تقليديا بجامع جماعة شرفة وبعدها مدرسة العبيلي بتلمسان. ثم بدأ مشواره باحتشام، حينما سلمه والده إلى عبد السلام بن صاري وهو مؤدي للمدح، والذي ضمه إلى جوقه كناقر على آلة الدربوكة بعدها اندمج في جوق الأستاذ العبقري الفنان العربي بن حاوي كعازف على آلة «الدربوكة» وهو لم يتجاوز الحادية عشرة سنة من العمر، ليتتلمذ على يد الشيخ دالي يحيى، إلا أن هذا اللقاء لم يدم طويلا ليلتحق بعدها بجوق الأستاذ عمر بخشي، الذي استلطفه وأعجب بقدراته الفنية الفطرية، والذي سيصبح بمثابة الأب الثاني لعبد الكريم دالي والذي نهل منه الفنان أهم وأبرز معارفه الموسيقية، حيث اهتم بهذه الموهبة عن قرب وعلمه كل قواعد الموسيقى الأندلسية... ومع هذا الجوق أتقن بن دالي استعمال آلة «الطار». كما أصبح يؤدي بعض «الاستخبارات» في الحفلات والأعراس وهو في سن 14 من عمره، وسرعان ما تطور حسه الفني من خلال احتكاكه بشيوخ كبار أمثال عبد السلام بن صاري شقيق العربي صاري، والشيخ لزعر دالي يحي، الشيخ بودلفة، مصطفى بريكسي وغيرهم... في سنّ مبكرة بدأ الفنان بن دالي يعزف على آلات الكمان، الرباب، الناي... ليتمرس على آلة العود واستطاع أن ينضم إلى أكبر جوق موسيقي تحت قيادة الشيخ العربي بن صاري... كما كان يؤدي بعض أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب التي كانت تعرض في بعض الأفلام. وبعد فترة طويلة قضاها في فرقة بن صاري، فضل بعدها فرقة ولده رضوان لتتم القطيعة مع فرقة بن صاري الأب، هذه القطيعة كانت سببا في انضمامه الى فرقة الشيخة تيطمة التي نشط معها في حفلات عديدة، وفي إحدى مدن الغرب الجزائري شاهده الفنان الكبير محي الدين بشطارزي الذي اكتشف فيه نجما لامعا فضمه الى فرقته ليذيع صيته في كل ربوع الجزائر. أول تسجيل... عام 1929 كان أول تسجيل للفنان عبد الكريم دالي سنة 1929، مع جوق الاستاذ عمر بخشي. وفي سنة 1930 سجل استخبار موال «ناري هيهات تنطفى» وقصيدة «كيف عمالي وحيلتي». كما شارك سنة 1931 في أول حفل له خارج الوطن وبالضبط في العاصمة الفرنسية باريس مع الجوق التابع للجمعية الأندلسية الثقافية كعازف على آلة الناي. في سنة 1938 سجل إلى جانب الشيخة تيطمة التي كان يرافقها على آلة العود والكمان حوالي 20 اسطوانة، ومع مر السنين بدأ الفنان عبد الكريم بن دالي يجيد ويتقن أشهر وأصعب أسلوبين في الموسيقى التقليدية «الأندلسية» ووصل قمة العطاء في الحوزي... وبعد مدة قصيرة أتقن العزف على معظم الآلات الموسيقية وهذه كانت بمثابة الانطلاقة الكبرى لهذا الفنان العبقري، فبحيويته أصبح من ألمع الوجوه الفنية في طابع الحوزي والكلاسيكي. مما جعل الفنان محي الدين باشطارزي يرشحه ليقوم معه بجولة كبيرة عبر كل التراب الجزائري، كما قادته جولة رفقته الى فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية سنة 1939، أبدع خلالها للجالية العربية المتواجدة هناك، حيث أدى أروع أغانيه... كما أسس جوقه الخاص، ونشط حفلات بالإذاعة، كما سمحت له جولاته الفنية التي على المستوى الوطني بالالتقاء بالعديد من الموسيقيين البارزين، نذكر منهم «محمد الكرد والصادق البجاوي». 1950... أغاني «الكاوي، المرسولي، الحجام...» في سنة 1950 سجل الفنان عبد الكريم دالي أغاني رائعة منها «الكاوي، المرسولي، الحجام ونرغب المعين»... ليستقر سنة 1952 رفقة عائلته نهائيا بالعاصمة، لما ذاع صيته وشاعت أغانيه وكثرت نشاطاته وحفلاته، ليشارك سنة 1964 في مهرجان الموسيقى الأندلسية بتونس أين نال نجاحا كبيرا، لتوجه له بعد ذلك دعوة من المرحوم بودالي سفير أول مدير للدائرة الفنية بالإذاعة للانضمام الى جوق المحط الأندلسي كمغنٍّ وعازف على العود وكان يرأس الجوق آنذاك الأستاذ المرحوم محمد الفخارجي. ثم بدأ في تلحين المدائح الدينية، كما كان يشارك في كل الأسابيع والمهرجانات الثقافية الجزائرية في أوروبا والبلدان العربية، ليسند له سنة 1965 منصب قار بالمعهد الموسيقي بالعاصمة كأستاذ للموسيقى الأندلسية لينصب سنة 1971 من طرف المعهد الوطني للموسيقى مستشارا فنيا للموسيقى الأندلسية قصد إعطائها دفعا جديدا نابعا من حبه لهذا الطابع الموسيقي. كما شارك في إنشاء موسوعة للموسيقى الأندلسية «موشحات وأزجال» التي صدرت عن الشركة الوطنية للنشر والتوزيع في بداية الثمانينيات من القرن الماضي. جمع بين التواضع والكرم في سنة 1976 حج الفنان عبد الكريم دالي إلى بيت الله الحرام وبعد عودته مباشرة أدى أغنيته الشهيرة «الرحلة الحجازية» و»الحمد لله نلت قصدي وبلغت منايا» والتي سبقتها أغنية الأفراح التي لا يمكن أن تفارق ذاكرة الجزائريين «صح عيدكم». والمعروف عن هذا الفنان، أنه جمع بين صفتين قل ما اجتمعتا في شخص واحد وهما: التواضع في معاملته للناس وكرمه الذي كان يضرب به المثل في الوسط الفني... هذا الفنان صاحب الحنجرة الذهبية التي جعلته يستغني في كثير من الأوقات والمناسبات عن مكبر الصوت، إضافة إلى امتلاكه «للصوت»، إلا انه كان مولعا بالبحث في الموسيقى الأندلسية والتنقيب عن كل جديد فيها وذلك من خلال تردده على كل المدارس الموسيقية، سواء في تلمسان أو العاصمة. كما امتاز بعطاء متدفق وبارع في حفظ الكلمات ومميز في الغناء والأداء... وبلباقة فنية كبيرة يزعزع بها جمهوره بمجرد وقوفه على الخشبة، كما استطاع المزج بين مدرستين في الموسيقى الأندلسية: المدرسة التلمسانية والمدرسة العاصمية... الشيء الذي جعل جيلا من الفنانين الممتازين يقتفي أثره، من بينهم نوري الكوفي، نصر الدين شاولي، حميدو، توفيق بن غبريت.. وغيرهم. الشيخ عبد الكريم دالي من أكبر شيوخ المدرسة الأندلسية والحوزي، حيث اعتبره الأستاذ الجامعي توفيق بن غبريط «موحِّدا» لمدارس الموسيقى الأندلسية الجزائرية (تلمسانوالجزائر العاصمة وقسنطينة). مضيفا خلال ملتقى وطني، نظم بمناسبة إحياء الذكرى العاشرة لتأسيس مؤسسة الحاج عبد الكريم دالي، أن هذا الفنان استطاع بفضل دخوله عالم الفن في سنّ مبكرة وتنقله المستمر بين مدينتي تلمسانوالجزائر أن يجمع ويؤلف بين المدرستين. كان يمتلك موهبة فذة، حيث كان يعزف على جميع الآلات الموسيقية وكان يتميز بصوت لا يضاهى. لقد كان لهذا الفنان قدرات في الابتكار في مجال التراث بفضل تحكمه في التقنيات الموسيقية والصوتية ما جعل منه عبقريا في هذا المجال»، يضيف بن غبريط. توفي الفنان عبد الكريم دالي بالجزائر العاصمة في 20 فبراير 1978 عن عمر ناهز 64 سنة بمنزله بحيدرة، وووري التراب بمقبرة سيدي يحي بالجزائر العاصمة، تاركا وراءه رصيدا فنيا كبيرا زاخرا في الموسيقى الأندلسية العتيقة. وبفقدانه تكون هذه الموسيقى خاصة والفن الجزائري عامة، قد فقد أحد أكبر العباقرة الذين استطاعوا ان يعطوا للفن وللموسيقى الأندلسية مكانة مرموقة في بلادنا.