الفن الجزائري لم يكن فنا اعتباطيا، ولا الذين ولعوا به أخذوه بسذاجة، بل غاصوا في بحوره وأخرجوا من أعماقه دررا نادرة فتزينوا بها، وزينوا بها مسارهم الفني، وبذلك خدموا التراث الجزائري الجميل وأخرجوه من الأزمنة وقد زانه القدم والأصل، فزاداه نصوعا وإقبالا عليه، وممن احترفوا الغوص في هذا البحر الشيخ عبد الكريم دالي، رحمه الله، الذي أصدرت وزارة الثقافية علبة تضم ألبومات وكتابا خاصا بمسيرته وسيرته بمناسبة ''تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية2011م''. وأنت تجوب حياة هذا الفنان الكبير تستوقفك محطات كثيرة وتثير فيك الإعجاب، فمن هو عبد الكريم دالي؟ ولد الفنان عبد الكريم دالي يوم 16 نوفمبر 1914 بشارع ''الموحدين'' بحي ''الرماح'' بتلمسان لأسرة عريقة، والده هو الآخر يحترف فنا لا يقل ذوقه عن الموسيقى، فإن كانت الموسيقى ذوق الاسماع، فإن الحلاويات ذوق الألسنة، فوالده عبد القادر دالي كان يعمل ''حلواجيا'' أين كان يلتقي بمتجره فنانون كبار أنتجوا وحافظوا ودرسوا الغناء التقليدي الحضري الأندلسي الحوزي العروبي والملحون لأشهر الشيوخ، أمثال أحمد بن تريكي، بن زقلي وبومدين بن سهلة (في القرن الثامن عشر). اكتشاف عبد الكريم دالي يرجع الفضل في اكتشاف عبد الكريم دالي، الى الشيخ عبد السلام بن صاري والذي يعد من كبار مطربي المديح الديني وأحد مقربي والد عبد الكريم دالي، عندما لاحظ شغف وتعلق عبد الكريم بآلة ''الايقاع'' (الدربوكة) فأخبر والده عبد القادر الذي استحسن ذلك. وألحقه الشيخ عبد السلام بن صاري بفرقته كعازف على آلة ''الدربوكة'' وكان ذلك سنة 1925 وسنه لم يتعد الحادية عشرة. أتقن عبد الكريم دالي العزف على عدة آلات، إلى جانب ''آلة الدربوكة'' كآلة ''الطار''، آلة نصف الموندول، كما أجاد العزف على آلة الناي. وإلى جانب الفن والموسيقى وجهه والده لتعلم حرفة الحلاقة عند صديقه الفنان المشهور محمد نجاح، الذي كان بدوره موسيقيا هاويا بارعا، وفي محل حلاقة هذا الأخير كانت تلتقي أبرز الأسماء الفنية أمثال الشيخ لزعر بن دالي يحيى وعمر بخشي، في سنة 1927 انتقلت فرقة الشيخ عبد السلام بن صاري إلى مدينة وجدة المغربية، وكان بالنسبة لعبد الكريم دالي أول سفر يقوم به خارج الديار، وفي نفس السنة التحق عبد الكريم دالي بفرقة الشيخ لزعر بن دالي واستمر بهذه الفرقة مدة سنة، لينضم بعدها إلى فرقة الشيخ عمر بخشي، ولدى إحياء سلطانة موسيقى الصنعة بالجزائر العاصمة، يامنة بنت الشيخ المهدي (وهي شيخة الحوزي العروبي والمديح)، سهرة عائلية بتلمسان، اقترح عليها الشيخ عمر بخشي أن تدمج في فرقتها الشاب عبد الكريم دالي، وذلك بعد أن لاحظت الشيخة يامنة قدرة عبد الكريم الصوتيه وطلبت منه تأدية استخبار فقدمه في طابع العراق، والذي كان مطلعه: ''الفراق في الحياة صعيب يخلي الدموع مطيلة'' وبعد أن اكتسب عبد الكريم الخبرة تطلع إلى تعلم العزف على آلتي الكمنجة والعود حتى برع فيهما، وفي سنة 1930سجل بالجزائر العاصمة اسطوانتين صحبة المعلمة تيطمة تابت، ثم سجل معها عدة أسطوانات كما تعرف بواسطتها على الفنانة مريم فكاي. وفي سنة 1931 التحق بدعوة من الأستاذ محمد بن اسماعين بجوق مدينة وجدة كمطرب عازف في إطار حفل أقيم بباريس. استقر عبد الكريم دالي بالجزائر العاصمة حيث التقى بشيوخ الموسيقى والفن العاصمي، وقد أطلعه الشيخ محمد فخارجي على العديد من المقاطع التي كان عبد الكريم دالي يجهلها، ومن ثم التحق بجوق الصنعة بالعاصمة. وترتب عن ملازمة عبد الكريم دالي للشيخ محي الدين لكحل بإبداع رفيع جعله يجمع بين الطابع الغرناطي لتلمسان ومدرسة الصنعة للعاصمة. كما اشتغل عبد الكريم دالي بالمعهد البلدي للموسيقى بالعاصمة مدرسا وتخرج على يديه أساتذة في الموسيقى. والتحق الشيخ عبد الكريم دالي بدعوة من المعهد الوطني للموسيقى كباحث في التراث الغنائي. مكانة عبد الكريم دالي الفنية يعدّ الشيخ عبد الكريم دالي من كبار أساتذة الحوزي والغربي وهو نوع جديد ظهر نتيجة تزاوج بين الموسيقى الجزائرية والمغربية. توفي الشيخ عبد الكريم دالي يوم 21 فيفري 1978 بالعاصمة. ومن الاستخبارات التي أداها عبد الكريم دالي استخبار غريب الذي يقول: ''أيا معرضا عني ولست بمذنب بماذا تجازيني إذا كنت مذنبا فإن كنت تجافيني أقابلك بالرضى وإن زدتني بعدا أزيدك تقربا'' وله أيضا: ''أنت معي تملأ الكؤوس يا مؤنسي في خمرة تحي النفوس في مجلس في روض باه كالعروس من سندس'' وله أيضا ''سل هموك في ذا العشية''... وزارة الثقافة خلدت هذا الفنان الكبير والمبدع الأصيل بتكريمه في اطار ''تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية'' وأصدرت له هذا الإصدار الذي سجلت من خلاله مسيرته الفنية وإسهاماته في بعث التراث الجزائري والحفاظ على الموسيقى الجزائرية الأصيلة، بالإضافة إلى الأبحاث والابتكارات التي أثرى بها المكتبة الموسيقية الجزائرية خاصة والعربية الأندلسية عامة.