ينطوي فهم عملية التضخم في الجزائر على ربطها بعودة التضخم العالمي إلى الاقتصاد الكلي والتوازنات الاجتماعية الكلية وفق رؤية ديناميكية. في حالة الجزائر، وبحسب البيانات الرسمية، فإنّ معدل التضخم التراكمي بين 2000-2021، وهو مؤشر لم يتم تحديثه منذ 2011، يقترب من 100 ٪ بين 2000 و2021، مع تسجيل ذروته بحسب محافظ بنك الجزائر، بنسبة 9.2 ٪ في أكتوبر 2021. في شهر أفريل 2022، وكان هذا هو الحال طوال عام 2021، وصلت العملية التضخمية إلى مستوى لا يطاق، إذ بلغت معدل أكثر من 100 ٪ للأجزاء والسيارات، وكذلك 100 ٪ لبعض المنتجات الغذائية. وتفاقمت جراء تداعيات الأزمة الدولية الحالية حيث تمثل صادرات المنتجات الغذائية من روسياوأوكرانيا 30 ٪ من حجم التجارة العالمية، حيث تضاعف سعر القمح مع احتمال حدوث أزمة غذاء عالمية تلوح في الافق. هناك نقص في العديد من المنتجات، كما يجب ألا نشعر بالرضا عن وجود فائض في الميزان التجاري من شأنه أن يشل الاقتصاد، بالإضافة إلى فواتير الكهرباء والماء والإيجار، ويتساءل المرء كيف يمكن لعائلة يتراوح دخلها الشهري بين 30 و50 ألف دينار أن تعيش لوحدها، خارج وحدة الأسرة الكبيرة التي سمحت في الماضي، بفضل دخل الأسرة، بحماية التماسك الاجتماعي، لكن ينبغي الحذر من أن تؤدي مضاعفة الأجور مع عدم زيادة الإنتاج إلى تسارع وتيرة التضخم إلى معدل يزيد عن 20 ٪ ممّا يعاقب حينها الفئات الأكثر حرمانًا. أسباب التضخم - السبب الأول: هو التضخم المستورد، خاصة مع الأزمة الأوكرانية هذا العام، لأن 85 ٪ من احتياجات الأسر والمؤسسات العامة والخاصة التي لا يتجاوز معدل إنتاجها القومي 15 ٪ تأتي من الخارج. الزيادة في دخل سوناطراك في عام 2022 بالكاد تغطي الواردات (أنظر مقابلتي على التلفزيون الجزائري Alg24 في 19/4/2022 وعلى التلفزيون الفرنسي في 18/04/2022). سجّل التضخم في منطقة اليورو مستوى قياسيًا بلغ 4.9 ٪ في عام 2021، بما في ذلك 6 ٪ في ألمانيا والولايات المتحدة، ويتوقع البنك المركزي الأوروبي ارتفاعًا بنسبة 3.2 ٪، والى أكثر من 5 ٪ لبعض الدول الأوروبية، و7 ٪ بالولايات المتحدةالأمريكية عام 2022 بينما في عام 2020، أثناء الوباء، انخفض المؤشر بشكل حادّ. يمكن أن تؤدي التوترات في أوكرانيا، وفقًا لصندوق النقد الدولي، إلى أزمة اقتصادية عالمية خطيرة جدًا، وبالتالي إلى توترات اجتماعية قوية، ممّا يثير مسألة الأمن الغذائي العالمي. لقد ارتفعت أسعار بعض المواد الخام المستخدمة في إنتاج النفط والمنتجات الأخرى التي تستوردها الجزائر بالعملات الأجنبية بشكل حاد. ويؤدي هذا بالتأكيد إلى زيادة فاتورة الغذاء، والتي بلغت 9 مليارات دولار في عام 2021 وفقًا للبيانات الرسمية، ويمكن أن تتضاعف العام 2022. ويتمثل الخطر في أن يكون لديك معدل تضخم بين 15 / 20 ٪، ومعدل بطالة أعلى من 15 ٪ مع تأثير سلبي على الانتعاش الاقتصادي المتوقع في عام 2022. وهذا يثير مسألة التماسك الاجتماعي وبالتالي الأمن القومي. - السبب الثاني: هو انخفاض مستوى الإنتاج والإنتاجية و«القيود" المفروضة على الاستيراد. وفقًا لتقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تنفق الجزائر ضعف ما تنفقه لتحقيق نصف التأثير مقارنة بالدول المماثلة، في إشارة إلى ضعف تخصيص الموارد. وبحسب الوزارة الأولى، فإن إعادة هيكلة المؤسسات العامة كلفت الخزينة العمومية قرابة 250 مليار دولار خلال الثلاثين سنة الماضية، منها أكثر من 90 ٪ عادوا إلى المربع الأول، وأكثر من 65 مليار دولار لإعادة التقييم، لعشر سنوات. وبحسب تقرير صندوق النقد الدولي نهاية ديسمبر 2021، فقد بلغت الصادرات 37.1 مليار دولار في عام 2021، مع الأخذ بأحدث التقديرات من موازنة سوناطراك لعام 2021، والتي تعطي 34.5 عائدات لعام 2021 من أصل 4 مليارات خارج المحروقات، بحسب تقرير لصندوق النقد الدولي. أما الواردات، في انتظار الميزانية الحكومية الرسمية، فوفقًا لصندوق النقد الدولي، كانت ستبلغ 46.3 مليار دولار (أعطى البنك الدولي 50 مليار دولار، الأمر الذي أثار الجدل)، 38.2 مليار دولار سلع ومواد وخروج 8.1 مليار دولار في شكل خدمات، وذلك بالرغم من كل القيود التي شلت جهاز الإنتاج بآثار تضخمية، موضحا أهمية عجز الموازنة بأكثر من 30 مليار دولار لعام 2022. وتحتاج الجزائر بحسب صندوق النقد الدولي لموازنة التشغيل والتجهيز إلى أكثر من 137 دولارًا في عام 2021، وأكثر من 150 دولارًا في عام 2022. -السبب الثالث: هو الاستهلاك الرسمي للدينار. وارتفع السعر من 76 / 80 دينارا للدولار تقريبا خلال الأعوام 2000-2004، وبلغت تسعيرة يوم 19 / 04 / 2022 هو 143.63 دينار للدولار الواحد، و154.92 دينار لليورو الواحد، حسب بيانات بنك الجزائر. فيما تم عرض سعره في السوق الموازية بالرغم من إغلاق الحدود بأكثر من 214 دينارا لليورو الواحد. ونص قانون المالية 2022 على 149.32 دينار للدولار لعام 2022، ولعام 2023 156.72 دينار للدولار الواحد مما يسرع من معدلات التضخم. هذا التخفيض يجعل من الممكن زيادة الضرائب على المحروقات والضرائب العادية بشكل مصطنع من خلال ضرائب الاستيراد التي تزيد من تضخم المنتجات والمعدات والمواد الخام المستوردة. وتطبق الضريبة الجمركية على قيمة الدينار، التي يتحملها المستهلك في النهاية، كونها ضريبة غير مباشرة. ولا يمكن للمؤسسة الاقتصادية دعم هذه الضرائب إلا إذا حسنت من وتيرة إنتاجيتها. وكان لتوقع التدهور الزاحف في قيمة الدينار تأثير سلبي على جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك سعر الفائدة للمصارف، مما يؤدي إلى ارتفاعه بعدة نقاط، والتكيف مع أسعار الفائدة ينجم عنه في النهاية يحد من الاستثمار الإبداعي. وبالنظر إلى الثروات التي تكسب بالمضاربة أكثر من الاستثمار في مواجهة التضخم، نشهد تداول كمية كبيرة من الأموال التي ادخرتها العائلات. لحماية أنفسها من تدهور قوتها الشرائية، فتراهم يستثمرون أموالهم في العقارات، والسلع المعمّرة التي يرتفع الطلب عليها مثل شراء الذهب أو العملات الأجنبية مثل اليورو. - السبب الرابع: المرتبط بالسابق هو انخفاض عائدات الهيدروكربونات ممّا يؤثر على ميزان المدفوعات ومستوى احتياطيات النقد الأجنبي، التي كانت 194 مليار دولار في 1 جانفي 2014 و44 مليار دولار نهاية عام 2021. وفي حال بلغ احتياطي النقد الأجنبي 10 مليارات دولار، سيضطر بنك الجزائر لإجراء تخفيض لقيمة الدينار الرسمي إلى حوالي 200 /250 دينار مقابل يورو الواحد، مع سعر في السوق الموازي يعادل نحو 300 دينار لليورو الواحد. - السبب الخامس: هو أهمية السوق غير الرسمي الذي يمثل حوالي 50 ٪ من مساحة الاقتصاد. وبحسب بنك الجزائر، فإنه بين سنتي 2019 و2020، بلغ المعروض النقدي خارج الدائرة المصرفية 6140.7 مليار دينار، بزيادة قدرها 12.93 ٪ مقارنة بعام 2019، بعد أن أعلن رئيس الجمهورية في مارس 2021 ان حجمه يقدر بين 6000 إلى 10000 مليار دينار، أو ما بين 33 و45 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي، مما يجعل نظام المعلومات عاجلاً لقياس هذا المجال. تتماشى أسعار المنتجات غير المدعومة مع مسار الدينار في السوق الموازية، مما يضخم التضخم الذي ينتشر في أوقات الأزمات. عندما تصدر قوانين أو إجراءات بدون حوار، والتي تتعارض مع عمل المجتمع، فإن المجتمع من جانبه يصدر قواعده (غير الرسمية) التي تسمح له بالعمل بكفاءة أكبر، لأنه يقوم على عقد الثقة. - والسبب السادس: هو الفساد الذي لا يجب الخلط بينه وبين سوء الإدارة. وبحسب تقديراتنا، فإنّ تدفقات النقد الأجنبي الوافدة بين عامي 2000 / 2021 تقدّر بنحو 1100 مليار دولار، فيما تتجاوز واردات السلع والخدمات بالعملة الأجنبية 1050 مليار دولار. وعلى الرغم من هذه المصاريف بالنقد الأجنبي (دون احتساب النفقات بالدينار)، كان معدل النمو السنوي ضئيلا جدًا، فقد انتقل من 2 إلى 3 بالمائة بين سنتي 200 و2019 مع الأمل في بلوغ 3.3 بالمائة في 2021 بعد نمو سلبي في 2020 بمعدل 4.9 بالمائة، وفقا لتقديرات صندوق النقد الدولي وخروج للعملة الصعبة بحوالي 14 مليار دولار، حسب نفس المصدر. ومع هذه النفقات، كان يجب أن يكون معدل النمو 9 / 10 ٪. بالنسبة للجزائر، فإن انجاز معدل نمو 8 الى 9 ٪ على مدى خمس سنوات ضروري لمعالجة معضلة الطلب على العمل، إذ الحاجة في عالم الشغل تتطلب 350.000 إلى 400.000 ألف منصب عمل إنتاجي سنويًا، وهو ما يضاف إلى معدل البطالة الذي يقترب من 14 إلى 15 ٪ في عام 2021. وافتراضا لو قمنا في مجال العملة الصعبة بتحسين تسييرها بمعدل 10 بالمائة دون حساب الجزء بالعملة الوطنية، الذي يعاني من تضخيم الفواتير بسبب عدم التحكم في مسالك التجارة الخارجية، وقمنا بتحسين إدارة جميع القطاعات بنسبة 10 ٪ وتوفير بنسبة 10 ٪ في مكافحة الفساد، لحققت الجزائر توفيرا بحوالي 210 مليار دولار من العملات الأجنبية بين 2020 /2021. ويمثل هذا أكثر من أربعة أضعاف احتياطيات النقد الأجنبي في نهاية عام 2021. وينبغي أن يضاف إلى هذا المبلغ الفساد بالدينار للأسواق المحلية، فالفساد يرفع الأسعار وبالتالي يساهم في التضخم. في الختام أعتقد أنّه بسبب توترات الميزانية، وارتفاع معدل البطالة وعودة التضخم، مع تدهور القوة الشرائية، فإن انتهاج مسار الانتعاش الاقتصادي لعام 2022 ضروري، بشرط أن مكافحة الإرهاب البيروقراطي، والفساد الذي يخنق الطاقات الإبداعية، وإنهاء عدم الاستقرار القانوني وتجنب رؤية نقدية بحتة من أجل الحفاظ على احتياطيات النقد الأجنبي ذلك انه بدون رؤية إستراتيجية للتنمية تتفاقم الأزمة. إنه من الضروري تنفيذ الإصلاحات الهيكلية التي يجب أن توفّق بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. هذه الإصلاحات التي تتطلب تضحية مشتركة ستكون بلا شك مؤلمة على الأمد القصير، لكنها تحمل الأمل على الأمدين المتوسط والبعيد. ومن هنا تأتي أهمية إقامة جبهة وطنية واسعة تأخذ بعين الاعتبار الحساسيات المختلفة، وشفافية الاتصال حول الوضع الاجتماعي والاقتصادي، في مواجهة التوترات الجيوستراتيجية على مستوى منطقة البحر الأبيض المتوسط والمنطقة الأفريقية، ومن ثمة يمكن للجزائر مواجهة التوترات الاجتماعية والمتعلقة بالميزانية على المستوى الداخلي بفضل تمتعها بإمكانيات كبيرة، وبالتالي تجاوز الأزمة الحالية. * خبير اقتصادي دولي أستاذ الجامعات دكتور دولة 1974