كيف لإنسان لم يتذوق طعم شيءٍ ما أن يعرفه، فالذائقة ليست شيئاً مجرداً، إذ كيف يمكن وصف شيءٍ لم يكابده الإنسان، وكيف يمكن توصيف هذا الشيء ممن عرفه لمن لم يعرفه، ذلك أن التواصل البشريّ مبني على المشترك الإنسانيّ، وقد قيل: لا يعرف الشوق إلا من يكابده...ولا الصبابة إلا من يعانيها، فهي نتاج خبرة إنسانية تشترط تفاعلاتها في النفس لتصبح جزءاً من {الخريطة الإدراكية الإنسانية} كما يطلق عليها الدكتور عبد الوهاب المسيري، ولتصبح مشتركاً إنسانياً يمكن بعد ذلك حين الإشارة إليه معرفة المقصود منه بشاهد الرصيد السابق من الإدراك جرّاء تلك المكابدة أو المعاينة، ولا يقتصر ذلك على مذاقات المعنى كالحب والشوق واللهفة والبُعد والوصل وغيرها، بل ينسحب على كل شأنٍ إنسانيٍّ جسديٍّ أو نفسيٍّ أو روحيٍّ، فهو شرط المعرفة، حيث لا يمكن أن تعرف مذاق فاكهةٍ أو رائحة عطرٍ لم تعرفه قبلاً مهما حاول الشارح أن يقرّبه من مثيلاته إلا حين تمتزج كيمياؤه بذائقتك، لتصبح إضافةً جديدةً إلى المكنون في الخبرة الذاتية جدّاً، ولتُضاف إلى مكونات تلك الخريطة القابلة للاستدعاء حين تناديها المستحثّات من خزائن الذاكرة، الوعي، المعرفة، مشكِّلةً مرجعاً مشتركاً مع مَن راكمَ مثلَك نفسَ الوعي، الذاكرة، التاريخ، تاريخ الذائقة، التاريخ المشترك، التراث…إلخ, وهي بقدر خصوصيتها أو عموميتها تشكِّلُ مرجعية للبشر الذين يشتركون فيها، مما يميّز الذاكرة المشتركة لجماعةٍ ما، أو شعبٍ ما، ويماسِك تجربته ويجبل وحدته ويصبغ مساره وينسج وجدانه ويعزف لحنه ويكرس طموحاته، فرائحة النشيد وطعم المخيم ومذاق بطاقة الإعاشة وشعار الأونروا ونسيج منظومة كاملة من المذاقات الأخرى لا يمكن أن يعرف عمق مدلولاتها إلا من كابدها وصهرته في مخبرها، ويصبح من الصعب على غير من عاينها أن يدرك معانيها أو مذاقها، ويصبح صعباً على من لم يذق طعم الاحتلال والاستيطان والإحلال والمنفى أن يدرك ما تعنيه بالضبط هذه المفردات، ناهيك عن الامتهان والمصادرة ومحو الملامح الوطنية والإنسانية والتفتيش على مخارج الأحياء والمدن، والاعتقال وإطلاق أسماءٍ غريبةٍ عن خريطتك ووجدانك على كلّ مسمياتك، بل كتابة اسمك بلغةٍ غريبةٍ لا تفهمها، لغة غير لغتك، على بطاقة «هويتك»، أن يعلن عدوّك أنّك لستَ أنت، وأن مكانك ليس لك، وتاريخك ليس لك، ومستقبلك ليس لك، إنه ببساطة مذاق الاستعمار، فمن يستطيع أن يعرف ماذا تعني كلُّ هذه الكيمياء إلا من كابدها؟ فالأمر لا يقتصر فقط على الحب والصبابة كما تقدَّمَ قولُ الشاعر، وقد اختصر المتصوفة العارفون القضية عندما قالوا بإيجازٍ شامل: {مَن ذاقَ عرف}، وكيف لي ولغيري ممن وُلد وعاش في مكابدات الاحتلال واللجوء، أن يعرّف بالضبط طعم الاستقلال، وأن يدرك معنى أن تكون حرّاً في وطنٍ حُرٍ، تمارس دلالك عليه، تشتمه إن أردت وتهجره غضباً كما كنت تغضب صغيراً من أمّك، ولا يستغرب حين يقرأ ويسمع عن مواطنين في أوطانهم ينتقدونه ويهجرونه ويعودون إليه متى شاؤوا بكلِّ خُيلاء، في مناخٍ لا يقدم لك مرجعية لتفسيرها ولا تستطيع في جهلك أن تفهمها، ولا تملك إلا أن تضعها في خانة الغرائب، وفي هذا المناخ فإنّ التعريف الوحيد الممكن للاستقلال هو أنّه نقيض الحال الذي نعيش، حال القيد والاستعمار والامتهان والبطش ومصادرة الروح والحرية والحقوق، نقيض إنسانية الإنسان، هو أن تتمكن من أن تكون كما تشاء في وطنك، سيداً متشردا، أن تمتلك حرية أن لا تعود لوطنك إن أردت، أن تستطيع أن توصي بأن تُدفن هناك وأنت واثقٌ من إمكانية تحقيق ذلك، هو أن تملك مكاناً آمناً نهائياً لألبوم صورك وقصاصات أوراقك، أو لزاوية آمنةٍ تظلُّ سندك كملجأٍ أخير في خضم منفاك، أن تحلم أن تلتقي كلّ صيفٍ في قريتك بأصدقائك، ومن بين مذاقاتٍ كثيرة فإنّ بعضها تشكل ذاتها بنفي نقيضها حتى تتحقق هي فتكون هي كما هي، بما أنها بداهة الخلق وانجذابه الفطري حتى لو صادره أعداء الفطرة، فالحرية أو الاستقلال يبقى تعريفه قبل تحققه متخيَّلاً بنفي حالة الاحتلال وكلّ سياقاته النفسية والاجتماعية والسياسية، وتبقى تصوراً ووجداً يُتشهّى ضدّ الموت المهيمن الجاثم، ولحظة انتظارٍ لتحقق الكرامة وتبلورها، وإعلان الذات عالياً كما المجد، وتوقيعاً بجدارة الصفة التي تليق بالإنسان، كالمتيَّم الذي يكابد شوقه، وكالسالك الذي يكابد المسالك إلى أن يصل ويذوق، ومن ذاق عرف، في الخامس من تموز يوليو عام ألف وتسعمائة واثنين وستين وصلت الجزائر بعد مكابدة الشوق الطويل، إلى تذوّق الاستقلال الذي ما زالت تكابد طريق الشوّق إليه فلسطين.