امتطت دولة مالي قطار المصالحة والسّلام، وانطلقت تشقّ طريقها نحو الاستقرار واستعادة الوحدة الوطنية من خلال العمل على تنفيذ بنود اتفاق السلم الذي توصّلت إليه بمرافقة الجزائر في 2015، وتأخّر تطبيقه لجملة من التحديات، أبرزها المصاعب الأمنية التي تواجهها هذه الدولة الواقعة في الساحل الإفريقي، والتدخلات الخارجية التي يلعب الكثير منها دور المثير للفتن والمؤجّج للنزاعات والخلافات بين الأطراف المالية بمختلف انتماءاتها العرقية والسياسية. ديناميكية سريعة تسجّلها دولة مالي في الفترة الأخيرة بعدما عقدت العزم على تحقيق الوحدة الوطنية وتجاوز الانقسامات التي خلقت طول السنوات الماضية بيئة جاذبة لتنظيمات الإرهاب والجريمة التي رهنت أمن هذه الدولة وحوّلت حياة شعبها إلى جحيم، ولم تفلح المقاربة العسكرية في حلّ المشكلة ولا التدخل العسكري الفرنسي الذي استمر تسع سنوات دون أن يحقّق النّصر الموعود، بل على العكس تماما، حيث تزايدت العمليات الإرهابية وتمدّدت إلى الدول المجاورة، ما جعل السلطة في باماكو ومن ورائها الشعب، تقرّر قطع علاقاتها العسكرية مع باريس وإنهاء عملية «بارخان» واللجوء إلى شركاء آخرين قد تكون مساعدتهم أكثر فعالية، كما خلصت إلى أن خيار السلاح لن ينهي وحده دوامة العنف، ومن هنا بدأ مسار المصالحة. رأب الصّدع ينتهي اليوم بمالي أسبوع المصالحة الوطنية الذي أطلقته الخميس الماضي السلطة الانتقالية المالية برئاسة العقيد أسيمي غويتا، وذلك في إطار تنقية الأجواء وتقوية البيت الداخلي، استعدادا للانتخابات، خصوصا أنه جاء بعد يومين من تشكيل لجنة توجيهية للاستفتاء والانتخابات العامة. وبالمناسبة، قال الرئيس الانتقالي غويتا أن «هذا الحدث هو بصيص أمل لمالي في نهجها الشجاع للمصالحة والسلام»، مشيرا إلى أن «التعبئة الكبيرة لأسبوع المصالحة الوطنية هي شهادة بليغة على اهتمام الماليين بالمصالحة والسلام». وأشار رئيس المرحلة الانتقالية إلى انهيار النسيج الاجتماعي لسنوات بسبب النزاعات المدمرة بين الأشقاء، وحث الماليين على تنمية روح التسامح والمصالحة من خلال التركيز على ما يجمعهم، وناشد الحركات الموقعة على اتفاق السلام الذي تمّ التوصل إليه بفضل وساطة الجزائر قبل سبع سنوات، قائلاً: «لقد حان الوقت للانتقال إلى الاتحاد المقدس من أجل أمة وجيش يعاد تشكيله». وقد ترأس منتصف الشهر، وعلى مدار أسبوع، الرئيس الانتقالي لمالي، العقيد أسيمي غويتا أعمال المصالحة الوطنية، بمشاركة وزير المصالحة والسلام والوئام الوطني المسؤول عن اتفاقية المصالحة الوطنية للسلام، العقيد الرائد إسماعيل واغي. وكما نشاهد، فإن مالي جادة في مساعيها لإقرار المصالحة، والدليل أنّها عينت وزيرا للمصالحة والسلام والوئام، كما أقرّت لجنة للحقيقة والعدالة والمصالحة. ورغم أن مسار المصالحة قد لا يكون سهلا، وقد تعترضه عوائق ومشاكل، فإنّ المهم هو أن دولة مالي أدركت طريق السلام والاستقرار، ووضعت قدمًا عليه، والنجاح في هذه المهمة مرهون بتعاون كل الماليين الذين عليهم تجاوز خلافاتهم وتبايناتهم من أجل توحيد البلاد وتحقيق الاستقرار للتركيز بعد ذلك على إعادة تشكيل الجيش وبناء مؤسسات الدولة والتحضير لنقل السلطة إلى المدنيين، وتوفير بيئة مناسبة لإطلاق التنمية ومحاربة الإرهاب. العودة إلى النظام الدستوري بالرّغم من سهام الاتهامات والانتقادات التي تطالها من كلّ جهة، فإن السلطة الانتقالية في مالي تبدو جادة في مساعيها لإعادة ترتيب البيت وتحرير البلاد من التدخلات الخارجية المشبوهة، وتخليصها من الخطر الإرهابي الجاثم على صدر الماليين. وقد دعا الرئيس الانتقالي المالي الكولونيل أسيمي غويتا الذي وصل إلى السلطة سنة 2021، في أكثر من مناسبة، إلى الوحدة والتركيز على التنمية والاستقرار، وحثّ على اتحاد مقدس حول المصالح العليا للأمة، كما عقد عهدا على العمل الجاد والصادق من أجل إنجاح مسار العودة إلى النظام الدستوري، وفي هذا الإطار، صادق على قانون الانتخابات الذي أقرته الهيئة التشريعية في جوان الماضي، والذي يعدّ شرطا لتنظيم استحقاقات تعيد المدنيين إلى السلطة، كما حدّد شهر فيفري 2024، موعدا للانتخابات الرئاسية ونوفمبر 2032 للتشريعيات، أما الاستفتاء الدستوري فقد حدده لمارس 2023، والانتخابات المحلية لجوان من نفس العام. رزنامة الانتخابات التي وضعتها السلطة الانتقالية في مالي، عكست بشكل واضح عدم رغبة هذه الأخيرة في الاستئثار بالسلطة، ولا في تمديد الفترة الانتقالية، وهذا ما جعل المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا «إيكواس» تعيد النظر في العقوبات التي فرضتها على مالي منذ جانفي الماضي، بمبرّر الضغط عليها من أجل تسليم الحكم لسلطة مدنية بشكل عاجل، حيث قرّرت المجموعة في جويلية الماضي رفع العقوبات، وأبدت دعمها لمسار الانتقال السياسي في هذه الدولة التي كانت مسرحا لانقلابَين عسكريين في أوت 2020، عندما أطاح الجيش بالرئيس إبراهيم بوبكر غويتا. وفي ماي 2021 عندما أطاح غويتا بالحكومة المدنية المؤقتة وتولى الرئاسة الانتقالية. دفعة قوّية لاتفاق السلم والمصالحة بقوّة دفع من الجزائر المتمسّكة بتطبيق اتفاق السلم والمصالحة في مالي الموقع في 15 ماي 2015، بعد مفاوضات استمرت 8 أشهر، استضافت العاصمة المالية باماكو في بداية الشهر، الاجتماع السادس رفيع المستوى للجنة متابعة تنفيذ الاتفاق، الذي جمع ممثلين عن حكومة مالي، والحركات الموقعة على الاتفاق برئاسة الجزائر، التي تقود الوساطة الدولية، وذلك لأجل تذليل العقبات التي تعوق تنفيذ بعض بنود الاتفاق، ومن بينها «دمج كافة مقاتلي الحركات المسلحة في الجيش». وبالمناسبة، وضع وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة، يده على الجرح، وشدّد على «ضرورة اتخاذ خطوات ملموسة في سبيل تنفيذ اتفاق السلم والمصالحة». وقال إن «الإرهاب، والجريمة المنظمة العابرة للأوطان هما العدو الحقيقي لمالي»، مشيراً إلى أن «الإرهاب يتوسع في ظل الانقسامات الداخلية، وغياب الآفاق الاقتصادية للمواطنين خصوصاً فئة الشباب». ووصف وزير الخارجية الجزائري، الظروف الحالية في مالي بأنها مشجعة وواعدة، حيث «يعقد الاجتماع في وقت باشرت فيه البلاد تنفيذ إصلاحات مؤسساتية هامة تهدف إلى إعادة هيكلة شاملة للدولة ومؤسساتها؛ بما يوفر فرصاً جديدة للتكفل بجميع التطلعات المشروعة للشعوب من أجل مستقبل أفضل في كنف المصالحة والسلام والوحدة». هذا، وعقد اجتماع مماثل في أوت الماضي، توّج باتفاق يقضي بإدماج 26 ألفاً من مقاتلي الحركات المسلحة، في الجيش المالي، على دفعتين قبل نهاية سنة 2024، ومباشرة إصلاحات سياسية ومؤسساتية غير مرتبطة بالتعديل الدستوري المرتقب. وأكدت الحركات المالية المشاركة في اجتماع الوساطة الدولية، التزامها الحفاظ على النهج التوافقي والديناميكية الإيجابية، بهدف إنهاء ترتيبات اتفاق السلام، والاستجابة لمقتضيات التحضير لدستور جديد. ومعلوم أنه كما كان للجزائر الدور الكبير في توقيع اتفاق السلام المالي، فإن الديناميكية التي تشهدها عملية تنفيذ هذا الاتفاق في الفترة الأخيرة، تقف وراءها الجزائر أيضا التي دعت على لسان الرئيس عبد المجيد تبون السلطة الانتقالية في مالي إلى ضرورة التمسك بتطبيق اتفاق الجزائر. وكان الرئيس الجزائري طالب الحكومة والفصائل المالية بتطبيق الاتفاق، وقال «إنه بدون تطبيق اتفاق السلم والمصالحة، ستظل مالي غارقة في مشاكلها ومستباحة للجميع». وقد تلقفت السلطة الحاكمة في باماكو، دعوة الجزائر في أوت الماضي، وأكّدت عزمها وإصرارها على تنفيذ اتفاق السلام، حيث قال رئيس الوزراء المالي تشوغويل مايغا، إن «حكومة مالي مصممة على استكمال تنفيذ ذكي لاتفاق السلم والمصالحة، والذي تضمنه مخطط عمل الحكومة للعام الجاري والمصادق عليه من طرف المجلس الوطني الانتقالي»، مشيرا إلى أهمية الحوار وضرورة قيام مختلف الأطراف بتنازلات خدمة للمصلحة العليا للأمة المالية». وأضاف مايغا أن «تنفيذ اتفاق الجزائر يعد، أمام الأزمة متعددة الأبعاد التي تعرفها مالي منذ 2012، أحد أبرز الأولويات لرئيس المرحلة الانتقالية العقيد أسيمي غويتا وللحكومة»، وثمن جهود الجزائر لتضامنها الفاعل ودعمها الثابت لمالي حكومة وشعبا. إن رهان مالي على المصالحة والحوار وتنفيذ اتفاق السلام، يعتبر السبيل الوحيد لتخليص البلاد من أزماتها المتعدّدة والتفرّغ لمحاربة الإرهاب ومباشرة التنمية وتعويض الشعب عن حرمانه الطويل في ظل العنف الذي تسبّب في مقتل الآلاف من المدنيين والعسكريين، إضافةً إلى تشريد مئات الآلاف. ودولة مالي اليوم، بحاجة ماسة إلى وحدة داخلية واستقرار سياسي حتى تستطيع مواجهة التنظيمات الإرهابية خاصة وأنّها فسخت في ماي الماضي معاهدة التعاون الدفاعي مع فرنسا بعد أن فشلت وشركائها الأوروبيين في صدّ هجمات الدمويين خلال نحو 10 سنوات. تشاد على نهج الحوار والمصالحة غير بعيد عن مالي، يتحرك المجلس العسكري الانتقالي في تشاد هو الآخر من أجل لمّ الشمل وتوحيد الصفوف، وإنجاح المصالحة الوطنية، من خلال فتح خيوط اتصال مع المعارضة والمتمردين قصد تبديد الخلافات وإنهاء الصراعات وتشكيل حكومة موحدة تمثل كل أطياف المجتمع وتدافع عن مصالح الجميع بهدف أساسي وهو تحقيق الاستقرار بهذه الدولة المتنوعة عرقيًا، حيث تتألف من قرابة 200 مجموعة عرقية، والتي غالبًا ما تُدرج ضمن أفقر عشرين دولة في العالم. المجلس العسكري الانتقالي التشادي يبدو صادقا وعازما، كما نظيره المالي، على إقرار المصالحة، والدليل قبوله تعيين معارضين في الحكومة الجديدة التي تتضمن وزارة للمصالحة الوطنية والحوار يتولاها الشيخ ابن عمر، وهو وزير سابق للشؤون الخارجية، والأمين العام الأسبق لجبهة التحرير الوطنية التي شاركت في التمرد على الرئيس الراحل إدريس ديبي سنة 2008، وكادت تطيح به بعد محاصرة المتمردين للقصر الوردي وسيطرتهم على العاصمة أنجمينا، لولا التدخل العسكري الفرنسي. واختيار معارض لحقيبة المصالحة لم يكن اعتباطيا، إذ يحظى ابن عمر بخبرات كبيرة وعلاقات واسعة، سواء في صفوف الحكم أو المعارضة، ما يجعله الأنسب للإشراف على الحوار الوطني الشامل، حتى الوصول إلى دستور جديد وانتخابات رئاسية وبرلمانية. إطلاق عملية المصالحة التشادية الشهر الماضي، جاء ضمن توصيات اتفاق السلام الذي وقّعته نجامينا مع عشرات المجموعات المسلحة برعاية قطر في الثامن أوت الماضي. فبعد 5 أشهر من جلسات التفاوض الشاقّة، نجحت الوساطة القطرية في تحقيق اختراق كبير أفضى إلى توقيع اتفاق سلام بين السلطات الانتقالية الحاكمة في تشاد ونحو 40 مجموعة معارضة، ما مهّد الطريق أمام حوار للمصالحة الوطنية الشاملة، تستضيفه العاصمة التشادية نجامينا منذ 20 أوت الماضي. أهم بنود اتفاق الدوحة اتفاق السلام الذي نجح في ردم الهوّة العميقة بين الأطراف التشادية، يتضمّن العديد من البنود، لعلّ أهمّها، وقف الأعمال العدائية بصورة تامة ونهائية، وذلك بالتزام الأطراف الموقعة بعدم استهداف بعضها في الداخل أو الخارج، إضافة إلى نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج، حيث تقوم الحركات المنخرطة في عملية السلام بتزويد اللجنة الاستشارية المكلفة بمتابعة تنفيذ اتفاقية الدوحة، بقوائم عن عدد مقاتليها وأسلحتها وأماكن التواجد، بالتنسيق مع الدول التي توجد فيها. كما أقرّ اتفاق الدوحة، تدابير بناء الثقة والترتيبات الأمنية، بينها إصدار المجلس العسكري عفوا شاملا على قادة وأعضاء الحركات الصادرة في حقهم إدانات قضائية وتهم متعلقة بالمشاركة في التمرد أو الاعتداء على أمن وسلامة الدولة، إضافة إلى التدابير اللازمة لضمان سلامتهم الجسدية وممتلكاتهم وأقربائهم عند عودتهم إلى تشاد، فضلًا عن إنشاء حزب سياسي لمن يرغب منهم في ذلك. في السياق، تعهّدَ المجلس العسكري والأطراف الموقعة معه على الاتفاقية ببذل كافة الجهود لتنظيم حوار وطني في نجامينا، تكون قراراته ملزمة لجميع الأطراف، وبالفعل لقد باشرت دولة تشاد هذا الحوار في 20 أوت الماضي، ورغم بعض العراقيل والمشاكل التي تعترضه، فهو لا زال مستمرا إلى غاية الوصول إلى مصالحة شاملة، ووحدة وطنية تجنّب البلاد الحروب التي لطالما أنهكت التشاديين البالغ عددهم 16 مليون نسمة، وحرمتهم من التنمية والنهضة. في الواقع إن ما تعانيه تشادومالي وغيرهما من دول الساحل الإفريقي، تنأى الجبال عن حمله، وقد جرّبت هذه الدول الخيار العسكري معتقدة أنّه المخرج لأزماتها، لكن تأكّد مع مرور الأعوام أن المقاربات العسكرية والاعتماد على الأجنبي لا يحلّ المشاكل بل قد يضاعفها، لهذا نقف على تحوّل جدري في سياسة هذه الدول، التي قرّرت دفع عجلة السلام وفتح قنوات الحوار والمصالحة، لتحقيق الوحدة، فالشعب الموحّد لا المنقسم، هو الذي يقوى على مواجهة كلّ التحدّيات وصدّ كلّ المخاطر، يبقى فقط عل الأطراف الخارجية المتآمرة، أن ترفع أيديها عن هذه الدول وتتركها تحدّد مصيرها بنفسها، فما حكّ جلدك غير ظفرك.