مضى عام على الحرب الروسية الأوكرانية التي بدأت بعملية عسكرية روسية محدودة داخل أوكرانيا، لكنها سرعان ما تحولت إلى حرب بين موسكو والغرب، لعبت فيها كييف دور الوكيل. وفي وقت تعرّضت روسيا لعقوبات شديدة، خسرت أوكرانيا أجزاء أخرى من حدودها، بعد أن أقرت أربع مقاطعات شرقية الإلتحاق بالإتحاد الروسي في استفتاء أسوة بجزيرة القرم. وأسفرت الحرب عن تحولات جيوسياسية، هي مكسب لطرف وخسارة لأطراف أخرى، وكانت الإعلان الواضح عن بداية تحول النظام الدولي عن الأحادية القطبية. بقيت روسيا إلى آخر لحظة تحذّر أوكرانيا من الإقدام على خطوة الانضمام إلى حلف «الناتو»، وفي 24 فيفري 2022، حسمت أمرها بالتدخّل العسكري لحماية آخر حدود تماس بينها وبين الحلف الذي خرق التزامه بعدم التمدد شرقا، المتفق عليه غداة انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه بانفصال الجمهوريات السوفييتية. أصل النزاع بدا أن روسيا لم تكن تفضّل الحل العسكري للتوتر السياسي بينها وبين الغرب في أوكرانيا. لكن إصرار حلف شمال الأطلسي على ضم أوكرانيا-التي تعتبر تاريخيا أرضا روسية -إلى المعسكر الغربي، دفع بالرئيس بوتين إلى إعلان التعبئة وتنفيذ عملية عسكرية محدودة في أوكرانيا، كآخر حل لثنيها عن الانضمام إلى ال «ناتو». وبدأ النزاع بين الدولتين منذ انفصال أوكرانيا عن الاتحاد السوفييتي العام 1991، لكنه بقي خامدا، إلى غاية انتخابات 2004، التي فاز فيها «فيكتور يانكوفيتش»، الموالي لموسكو، إذ ما فتئت أصوات معارضة تتعالى،ونُظمت مظاهرات شعبية واحتجاجات مطالبة برحيله بحجة أن الانتخابات مزورة، وأطيح ب «يانكوفيتش» فيما صار يعرف بالثورة البرتقالية، وجيء ب «فكتور ياشينكو»، ذي التوجه الغربي، بعد إعادة الانتخابات. وكانت هذه الانتخابات القطرة التي أفاضت الكأس، ومهّدت لتمدّد غربي إلى تخوم روسيا، بعد ضم العديد من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة إلى «الناتو» العام 2004 وهي ليتوانيا واستونيا ولاتفيا. واستمر التوتر طيلة السنوات الستّ التالية إلى حين انتخاب «يانكوفيتش» مجددا رئيسا لأوكرانيا، والذي فصل في قرار التوجه نحو الشرق، بإبرام اتفاق شراكة اقتصادية مع روسيا بدل التوجه إلى الاتحاد الأوروبي الذي سعى إليه سابقه. وبحلول العام 2014 اندلعت احتجاجات ضد «يانكوفيتس»، واتخذ البرلمان قرار عزله، وفرّ إلى روسيا، واعتبرت روسيا الخطوة مدفوعة بدعم غربي لقطع الطريق أمام عودة أوكرانيا إلى البيت الروسي. وردت بضم جزيرة القرم التي كانت تابعة لأوكرانيا، ونشرت قواتها هناك بمبرر حماية الأقلية الروسية التي تتعرض لاضطهاد نظام كييف، خاصة بعد منع تداول اللغة الروسية التي يتحدث بها غالبية سكان شبه الجزيرة. بين استراتيجيتين تعتبر أوكرانيا ذات خصوصية في المروث السياسي الروسي، الذي يعتبر العاصمة «كييف» أم المدن الروسية، ولدى الدولتين إرث عرقي وحضاري وديني مشترك على مدار قرون ماضية. ونشأة أوكرانيا بحدودها المعروفة حاليا كانت بقرار من زعيم الثورة البلشفية «فلاديمير لينين»، الذي شكّلها باقتطاع أراض روسية ومنحها حكما ذاتيا في إطار جمهوريات الاتحاد السوفييتي. وفي هذا السياق يقول المفكر السياسي والفيلسوف الروسي «ألكسندر دوغين» في مقال بعنوان: «أوكرانيا في اللعبة الكبرى» أن ذلك التقسيم كان إداريا فقط، وتطور إلى انفصال سياسي بدعم من الغرب بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، وكما سبق ذكره، تعتبر أوكرانيا خط تماس بين روسيا والعالم الغربي ويحاول الغرب لجم روسيا ومحاصرتها، ومنعها من أداء دورها في محيطها الجيوسياسي، بينما يتمدد هو على حسابها شرقا من خلال ضم كل الدول المحاذية لها تقريبا إلى الاتحاد الأوروبي، ثم محاولة ضمها إلى الحلف العسكري «ناتو»، في إطار حرب باردة لم تنته بسقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفييتي. وبالعودة إلى الاستراتيجية الروسية لما بعد 1999، سنة وصول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى سدة الحكم، فإننا نلمس رغبة روسية في استرجاع مجدها الحضاري والتأثير في مجالها الحيوي. ويكون ذلك حسب المفكر، «الكسندر دوغين»، صاحب النظرية السياسية الرابعة من خلال مفهوم الأوراسية، والتي تعني في شقها الجيوبوليتيكي أن كل منطقة السلاف وعلى رأسها أوكرانيا هي كيان قاري واحد ومستقل، وإلى جانبها كيانات أخرى مستقلة، وبالتالي رفض كل تدخل غربي من خارج الكيان. ولا تقل أهمية أوكرانيا بالنسبة للغرب عنها بالنسبة لروسيا. ففي المنظور الغربي لم ينه تفكك الاتحاد السوفييتي مخاوف الغرب من عودة روسيا منافسا لها، وهذا ما أظهرته خطابات الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» منذ توليه السلطة، فقد سعى إلى إعادة روسيا قوية ومتنفذة في عالم سيطرت عليه أحادية قطبية قولبت العالم في اقتصاده وسياسته وثقافته، وزاد من مخاوف الغرب نهوض الصين وبروز بوادر قوة عالمية تتحول تدريجيا إلى عظمى. ومن شأن وجود دولتين قويتين متحالفتين في الشرق أن يدحرج الغرب عن هرم القوة في العالم، ويعيد ذلك إلى الأذهان نظرية قلب العالم ل «هارفورد ماكيندر»، التي تقول إن أرواسيا هي قلب العالم، ومن يسيطر على قلب العالم يسيطر على جزيرة العالم، ومن يسيطر على الجزيرة يسيطر على العالم. وبالتالي وظف الغرب النظام في أوكرانيا التي تتواجد في قلب أوراسيا، في محاولة للسيطرة على قلب العالم، واستدراج روسيا إلى مستنقع حرب استنزاف تحول دون عودتها قوة عظمى. تغيرات جيوسياسية ونظام دولي جديد أسفرت الحرب في أوكرانيا عن تحولات في الخارطة السياسية لأوكرانياوروسيا. ففي سبتمبر 2022، نظمت مناطق أوكرانية كانت أعلنت في وقت سابق انفصالها عن أوكرانيا، وحكمت نفسها ذاتيا، استفتاء للانضمام إلى روسيا، وجاءت نتائجه في صالح الانضمام، ويتعلق الأمر بمناطق دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزاباروجيا، لتلتحق بشبه جزيرة القرم. وقد لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ أن استمرار الحرب قد يسفر عن مزيد من تقسيم أوكرانيا، لإنشاء منطقة عازلة بين الغرب وروسيا. إلى جانب ذلك، كشفت هذه الحرب عن تحالفات سياسية، وبرز من جديد مصطلح القوى المتوسطة، والذي يعني أن دولا تتمتع بحجم من القوة يجعها إما تدعم النظام القائم إذا ما وجدت فيه امتيازات تخدمها، أو تتحالف مع قوى أكبر مناهضة للوضع الراهن من أجل التغيير. ومن أمثلة ذلك مجموعة «بريكس» التي بدأت تتوسّع بتلقي طلبات جديدة للانضمام إليها، وهي مجموعة تضم دولا ترفض المنظور الغربي للعلاقات الدولية وتسعى لإرساء نظام متعدد الأقطاب. تعتبر هذه التطورات تأكيدا على تنبؤات منذ نهاية تسعينات القرن الماضي بتحول النظام العالمي من أحادي إلى متعدد الأقطاب. وفي السياق، قال الرئيس الأمريكي الأسبق، بيل كلينتون، عام 1999 في حوار لقناة «سي أن أن»، إنه يرى أن أمريكا لن تستمر قوة وحيدة في العالم وأن الصين ستنافسها اقتصاديا خلال السنوات العشر الموالية. وبحلول العام 2020، تمكن الاقتصاد الصيني من التفوق على الاقتصاد الأمريكي لأول مرة في تاريخه، بنحو ستة أعشار (24,2 تريليون دولار مقابل 20,8 تريليون دولار على الترتيب). وهو أحد المؤشرات القوية على بداية التراجع الغربي وصعود أقطاب منافسة، تمهيدا لإرساء قواعد نظام دولي جديد. نتائج الحرب بعد إعلان روسيا العملية العسكرية في أوكرانيا، فرضت الدول الغربية عقوبات اقتصادية عليها فاقت كل العقوبات المفروضة على باقي دول العالم مجتمعة. لكن روسيا وبعد عام من فرض العقوبات مازالت قائمة ولا يبدو أنها تأثرت كثيرا، كونها استعدت للموقف بأخذ العبرة من عقوبات 2014، ووجدت لنفسها بديلا للسوق الأوروبية فيما تعلق بتصدير النفط والغاز، الذي تحولت إمداداته إلى الصين أكبر مستهلك للطاقة في العالم إلى جانب الهند. وعلى عكس من ذلك تأثرت الدول الأوربية بشكل مباشر من العقوبات على روسيا، إذ لم يكد الاقتصاد العالمي ينتعش، بعد ركود دام نحو عامين بسبب فيروس كورونا، حتى عطّلت الحرب إمدادات الطاقة إلى السوق الأوروبية التي تعتمد أساسا على النفط والغاز الروسيين. وبسبب الخسائر الاقتصادية التي تكبدتها أوروبا غداة وقف روسيا إمدادت الطاقة، وقدرت خلال الأشهر الأولى بنحو 800 مليار أورو وسط توقعات ان ترتفع إلى 1,5 تريلون أورو، قررت بعض الدول الأوروبية العودة إلى استخدام الفحم الحجري، ومدّدت دول وغيرها العمل بمحطات الفحم الحجري، بعد أن كانت تسير نحو إغلاق نصف عدد المحطات البالغ 324 بحلول العام 2030. وأشار تقرير الوكالة الدولية للطاقة أن استهالك أوروبا من الفحم الحجري قفز إلى 478 مليون طن في 2022، مقابل 449 مليونا السنة التي قبلها، أي بنسبة 1.2 بالمائة. وتأثرت ألمانيا بشكل كبير من توقف امدادت الغاز الروسي. وقد زاد تفجير خطي أنابيب نورد ستريم 1 و 2 شهر أكتوبر الماضي من معاناة الدول الأوروبية في تأمين احتياجات الطاقة، لمواجهة شتاء بدأ باكرا. أزمة غذاء محتملة في 2023 تسببت الحرب في أوكرانيا والعقوبات الغربية على روسيا في ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وأسعار الأسمدة على حد سواء، فسفن النقل لم تجد ممرات آمنة لنقل الحبوب من الموانئ الأوكرانية، والأسمدة الروسية كانت ممنوعة من التصدير. وتصدر أوكرانيا سنويا ما مجموعه 45 مليون طن من الحبوب إلى دول العالم، فيما قدرت الصادرات الروسية بأكثر من 38 مليون طن العام 2021، توجه معظمها إلى دول الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا، التي تأثرت بشكل كبير بسبب توقف الصادرات الروسية والأوكرانية. ومنها الدول العربية التي تعتمد بنسبة 42 بالمائة على صادرات روسياوأوكرانيا، وهوما يعني تأثرها البالغ بتبعات الحرب. وأمام هذا الوضع توصلت الأطراف المعنية إلى توقيع مبادرة بين الأممالمتحدة والاتحاد الروسي وتركيا وأوكرانيا على» مبادرة حبوب البحر الأسود» في22 جويلية 2022، وتقضي بتصدير الحبوب إلى 43 دولة، قصد التصدي لأزمة الغذاء المحتملة في 2023، حسب الأممالمتحدة. وأشار تقرير أممي، بتاريخ 18 جانفي الماضي، إلى تصدير 17.8 مليون طن من الحبوب منذ أوت الماضي، من أصل 20 مليون طن بقيت عالقة في الموانئ الأوكرانية منذ بدء الحرب. لكن الاتفاق شابته بعض العراقيل حيث اتهمت روسيا الدول الغربية بعرقلة الاتفاق في الشق المتعلق بصادراتها، بعد تعرض سفن نقل بحري روسية للقصف بطائرات مسيرة شهر أكتوبر الماضي، مادفع بها إلى تعليق العمل بالاتفاق، قبل أن يستأنف في وقت لاحق من شهر نوفمبر. مكاسب وخسائر لا تقتصر نتائج الحرب الروسية الأوكرانية على الخسائر والمكاسب المادية فقط، فدخول كل طرف إلى هذه الحرب كان وفق حسابات جيوسياسية في عالم بدأت بوادر تغيره منذ أحداث 11 سبتمبر 2001. فالمنظومة الغربية الأكبر من تعدد الأقطاب، خرقت كل الاتفاقات مع روسيا الاتحادية التي قدمت الكثير من التنازلات بعد تفكك الاتحاد السوفييتي. وأهم تلك الاتفاقات هو عدم التمدد شرقا لكنها ضمت جمهوريات سوفييتية سابقة كما ضم الاتحاد الأوروبي دولا كانت جزءا من الاتحاد السوفييتي، وهو ما يعني حصارا لروسيا في مجالها الحيوي. أما روسيا فرأت في أم المدن الروسية خطا أحمر لا يجب تجاوزه، وخاضت الحرب منعا لدخول ال»ناتو»، إلى عقر دراها، ومن المتوقع أن تمضي في خطة إنشاء منطقة عازلة موالية بشرق أوكرانيا، وهي المنطقة التي تضم أغلبية روسية، والتي كانت انفصلت أو فصلت عنها بانهيار الاتحاد السوفييتي. فيما ترى الصين أن من واجبها دعم روسيا معنويا بالتزام الحياد والوسطية لمواجهة التغوّل الغربي، الذي تمدد إلى المحيط الهادي ويعبث في باحتها الخلفية ويتخذ من تايوان ورقة ابتزاز لزعزعة استقرار البر الصيني، وإلهائه عن طموح القوة الكبرى. وبالتالي عززت الحرب من التقارب الصيني الروسي الذي يخيف الغرب. وبالنسبة لأوروبا فيبدو أنها الخاسر الأكبر من هذه الحرب، فقد أجلت مضيها نحو تحقيق الاستقلال الأمني عن الحلف الأطلسي، واضطرت دوله إلى السير عكس مصالحها الوطنية، والدخول في مواجهة مع روسيا.