أكتب بمناسبة دخول 22 عاما على اعتقالي. تمر الأيام ثقيلة كالجبال، فكل يوم يمر يضع صخرة جديدة على صدري، وصدر كل أسير في المعتقلات الصهيونية، ومابين العيش ما استطعنا اليه سبيلًا تحت القيود، وبين الزنازين وصوت السجان، وقرع الذكريات، وقصيدة الحضور وشوق الغياب. يا لها من مناسبة كئيبة حيث فقدان ما كان متاحًا. تنبّهنا لمعنى الحرية والنضال واقترانهما معًا، وتنبهنا لمعنى الفقدان للحرية. فالنّضال في جلّه إن لم يكن من أجل الحرية فهو نضال منقوص. يا لها من مناسبة كئيبة، ولكن لكل مصيبة أن نحولها الى فوائد أو نجد منها ونستخلص المزايا؛ فالوقت الذي كان بين أيدينا طويلًا ورحبًا نفعل فيه ما نشاء، أصبح مقولبًا بيد السجان، إلا إن استطعت الفكاك من أسره، وما ذاك إلا من آيات الصمود الكبير حيث نتخذ من الوقت منصّة للخيال أحيانًا ولاسترجاع الذكريات في حين آخر، وأيضًا منصة لمقارعة السجان. كما هو منصة للتقدم على درب العلم والثقافة، ومنصة للتقدم على مساحة بناء العلاقات المتينة بين الأخوة ما كان مفتقدًا بمراحل الشباب ربما حين كانت الحياة تدهمنا، رغم تدلي أقنعة الهواء من الأعلى لتنبّهنا على ضرورة تنفس الهواء النقي بعيدًا عن ضغط الانشغالات التي كانت لا تنتهي. في سورة الصّمود الكبير تنبّهنا للوقت فمن يريد أن يقضيه بسواد ليله وقتامة يومه، وفي كَمَد السجان وألم الفراق والتفجع، فله ذلك ومن أراد أن يقضيه بالتحدي للقاتل في حلّة السجان فله ذلك، وإن كان بصعوبة كبيرة. ولك أن تتخيل كيف للأسير أن يقتطع من وقته المأسور لينشغل بحيثيات بناء ذاته وتطوير فكره أو علمه أو علاقاته، وهو يقاسي شتى آلام الفراق والبُعد. وما بالك حين تداهمه الذكريات فلا تجد لها متنفسًا إلا بحوارات الأخوة الصاخبة، واقتراب الاضطراب القلبي لكل منهم حتى لكأنك تمس شغاف قلب الآخر. في المعتقل تعلّمنا رغم أنف السجان أن نقرأ، وتعلّمنا أن نكتب لمن كان هذا الأمر له بُعد السماء عن الأرض. وبالنسبة لي أصبحت القراءة والكتابة والحوار والدرس والنقاش من السمات الأثيرة التي رغم الصعوبات لازمتني. حتى بتّ أخط بيدي رسالة تلو الأخرى ومقالات وكتبًا، ومما تم تمزيقه أو منعه. يد السجان لها أن تمنع عنّا ضوء النهار، وعشق الكلمات إلا أن اليد الثائرة لا تكف عن الكتابة والعقل المليء بالضجيج والصخب لا يتوقف عن التفكير، والهواء المكتوم لا يكف عن ملء الرئتين فينا. إن أردت أن تختنق بالدموع وسيل الذكريات الحزينة والقتامة فلك ذلك، وإن أردت أن تقارع السجان في عقر سطوته فلك ذلك أيضًا، فتظل حيًا وتضع على صدرك نياشين الثورة في مقارعة الظلم ونشدان الامل. السجن مقاومة، ولن يكون لنا كمعتقلين إلا الاستمرار لما كان من مقاومتنا ونضالنا بالخارج، ومهما تنبّهنا لألم الفقدان ووجع ما ذهب وانقضى، فإننا نظل نسجل في سجل الوطن أنصع آيات الصمود. في رسالتي لعائلتي وولدي عاهد، والذي لم أشهد مراحل عمره وهو اليوم في الجامعة أقول: الله أكبر على كل معتد، والله أكبر وأعظم. وكل ليل بعده فجر يوم منير. وما لك الا أن تكون كأبيك وعمك الشهيد وجدك التحلي بالإيمان والثقة وبالقيم، واكتساب القوة بالعلم، وتواصل الفعل المنجز لفلسطين حتى يأتي الله أمرًا كان مقضيًا. تشعر بالأيام أحيانًا تمر تترى متسارعة وكأنها مثل مر السحاب. بالأمس لم أكد أتبين هل أنا أنا أم أنا بعد 22 عامًا كيف أصبحت؟ وكيف يراني أخوتي وأصدقائي والمقربين؟ الى قيادتنا العتيدة بالخارج، إنّها أيامٌ آن لها أن تنتهى، فماذا أنتم فاعلون لإنهائها؟ وماذا أنتم فاعلون بالخارج لكسر قيودنا وقهر الجلاد، ألم يحن الوقت!؟ لكل أصدقائي وإخوتي في الخارج ممن زاملتهم بالجامعة وأماكن العمل المختلفة، ولكل من ساعدني ودعّمني بكل شيء، شكرًا لكم لكل ما تفعلونه من أجلي على درب الحرية ولكل الأسرى. وشكرًا لكم أنّكم على العهد سائرون، ولن تتحقّق حرية الوطن كما تعلمون إلا بحريّة الأرض من القدم الغازية والفكرة الفاشية، وبتحرير كافة الأسرى والله ناصر من ينصره.