المناص نمط من أماط المتعاليات النصية - بحسب ج - جينيت - يتشكّل من روابط هي عموما أقل ظهورا وأكثر بعدا من المجموع الذي يشكله عمل أدبي، فلا يمكننا معرفة نص ما أو تسميته إلا بمناصه، فقلما يظهر النص عاريا عن عتبات لفظية أو بصرية تحدده مثل (اسم الكاتب، العنوان، العنوان الفرعي، الإهداء، الاستهلال، كلمة الناشر)، وهذا من أجل تقديمه للجمهور، أو بأكثر دقة جعله حاضرا في الوجود قصد استقباله واستهلاكه. هذا المناص لم يذكره جينيت في كتابه، لكننا شققناه من فهمنا، ومحضناه بفكرنا من المناص العام نفسه، فإذا كان المناص عامة (مناص المؤلف، ومناص الناشر) يقع في تلك المنطقة المترددة بين الداخل والخارج، فإن المناص التخييلي هو من يحرك هذه المنطقة المترددة، لأنه يسكنها وتسكنه، فهو يتواجد في ذلك البرزخ النصي/المناصي، أي في عالم التخييل السردي (في عالم كأنه هو؟)، كل يوم يسرد موضوعا جديدا في هذا العالم المتعولم. 4-2- المناص التخييلي وخطاب الإهداء: لقد أشرنا سابقا للدور الكبير الذي يلعبه المناص التخييلي باعتباره مناصا مضاعفا، يلتزم كل عتباته، كما جئنا على ذكر خطاب الإهداء في رواية ربعي المدهون، بكونها أحد العلامات التجريبية في الكتابة السردية العربية المعاصرة، وهذا التجريب الكتابي قد عرف من قبل عند الروائي الجزائري واسيني الأعرج في روايته (طوق الياسمين). فإذا علمنا أن خطاب الإهداء، هو خطاب اعتراف بالجميل، وعرفان من الكاتب لكل معيل له على شواغل الكتابة، وتقدير لهم، لهذا كان تقليدا تأليفيا عريقا مارسه العديد من الكتاب على مرّ العصور المتعاقبة بأشكال متعددة، ليعرف تطورا كبيرا في عصرنا الحالي مع تحول الوسائط الكتابية الجديدة من الورقية إلى الرقمية، وهنا بحث آخر يحتاج إلى تدبيرات أخرى. وبرجوعنا إلى الإمكانات السردية الجديدة التي استخدمها الروائي في رواية (طوق الياسمين)، والتي لم يشتغل عليها الكثير من الروائيين، وحتى (ج.جينيت) لم يقدم هذا الاحتمال لخطاب الإهداء، بأن يهدي الكاتب الواقعي عمله إلى أحد شخصياته الرئيسية (عيد العشاب) التي رافقته في مشوار الكاتبة المضني والمحفوف بالانكسارات والانتصارات منذ ثمانينيات القرن الماضي في روايته (وقع الأحذية الخشنة)، وصولا إلى العشرية السوداء الذي أظهرت لنا هذه الرواية وروايات أخرى، فتستحق هذه الشخصية الروائية العرفان لمساهمتها في رصد حيوات شخصيات مجتمع الرواية، فحق له الإهداء بعد الإهداء العائلي، إلى زوجته الشاعرة (زينب الأعوج)، وتذكيرا بزمن الفتنة وعشرية الدم والنار وحراس النوايا، أن يتذكر تلك الصداقة السردية الحاضرة التي جمعته بالشخصية السردية (عيد العشاب) يقول: - الإهداء العائلي: الإهداء التخييلي للعيد العشاب: الحلقة الثانية وعليه فخطاب الإهداء عند الروائي عرفان تسحبه الذاكرة من أعماق النسيان إلى شطآن التذكر الممتزجة بين الواقعي والسردي. - المناص التخييلي وخطاب الترجمة (التخييلية): إنّ التجريب السردي للرواية العربية، لم يكتف فقط ببعض العتبات النصية الظاهرة على المناص التخييلي، بل تجاوزه إلى أحد العناصر المناصية التي لم يلتفت إليها في المناص العام (الأصلي)، حتى عند مؤسسي هذه النظرية (ج.جينيت)، فقد أشار إليها هذا الأخير إشارة عابرة في خاتمة كتابه (عتبات)، إذ جعلها أحد عناصر النص الفوقي، مثلها مثل النقد. إلا أننا لم نجد من المشتغلين بعده على العتبات، لم يولوها اهتماما، كون ترجمة العمل الأدبي، ومنها الرواية ستنقلنا من علامات ثقافية وسردية إلى علامات ثقافية وسردية أخرى، باختلافية عوالمها الممكنة. فنحن نرى أن خطاب الترجمة، وإن كان بحسب تقسيم (ج.جينيت) أحد عناصر النص الفوقي (التأليفي)، غير أنه لم يدفع بهذا الطرح قدما، ولا أحد من أتباعه، فكيف يكون أحد العناصر، والترجمة ستستقل ينصها الخاص، الذي سيحمل كتاب خاص، بلغة مخصوصة ودار نشر ربما مغايرة عن دار النشر المصدرة للنص الأصلي ومناصه، لهذا سنتجاوز كون خطاب الترجمة عتبة تخيلية فقط، لتصبح مناصا تخييليا يضاعف مناصه الأصلي أيضا، وقد سميناه في غير هذا البحث ب (مناص الترجمة). وهذا المناص الترجمي سيحمل نفس أقسام المناص الأصلي، مع بعض الخصوصيات التي يحملها هذا الخطاب الناقل للمعارف والثقافات، وهنا سنركّز على جديد ما توصلنا إليه من أن للترجمة مناصها المغاير للمناص العام للنص الأصلي، وهذا ما سنشتغل عليه في أحد الروايات القليلة التي وعت بهذا المناص الترجمي (التخييلي)، وهي رواية (ساق البانبو) للروائي الكويتي سعود السنعوسي؛ فالناظر للرواية يجد أن لها مناص أصلي ظاهر على صفحة الغلاف، تحمل العتبات المتعارف عليه: (اسم الكاتب، عنوان الرواية، صورة الغلاف، المؤشر الجنسي، علامة دار النشر)، وهذا ما يظهر أيضا في الصفحة الثانية للغلاف. وبعد تجاوزنا للصفحة الثانية التي تعيد علينا ما ورد في صفحة الغلاف، والصفحة الثالثة الحاملة لمعلومات النشر، تطالعنا صفحة جديد، تحمل عتبات نصية تغاير على ما وجدناه في صفحة الغلاف، هذا هو مكان ما سميناه المناص الترجمي. اسم الكاتب الضّمني (التّخييلي) هنا يختفي اسم الكاتب الواقعي (سعود السنعوسي)، لينقل إلى السارد ذاك الشخصية الرئيسية في الرواية (هوزيه ماندوزا)، الذي يكتب أصلا باللغة الفليبينية (JOSE MENDOZA)، وهذا قصد الإيهام بالترجمة التخييلية، وعليه فقد حددت المسؤولية الأدبية والحقوق الفكرية للعمل الأدبي. العنوان التّخييلي للرّواية والأمر نفسه، يظهر على العنوان الذي كتب باللغة الفليبينية، ثم نقلت كلماته للغة العربية، من قبل مترجم الرواية الذي استعان به الكاتب الضمني، فعنوان ساق البانبو باللغة الفيلبينية هو: (ANG TANGKAYA NG KAWAYAN)، ويمكن لهذا العنوان أن تقام عليه دراسة مستقلة للكشف عن شعريته ووظائفه وطاقته التأويلية المتحولة بفعل الترجمة. اسم المترجم (التخييلي) وهذا هو العنصر المناصي الجديد الذي لم نجده في المناص المضاعف (التخييلي) في رواية (ربعي المدهون)، هنا مناص الترجمة يلعب دورا مهما باعتباره من العناصر التجريبية الجديدة، إذ يوهمنا الكاتب الواقعي أن الرواية مكتوبة بالفلبينية، لهذا احتاجت لمترجم لها للغة العربية، غير أننا نجد أن هذا المترجم كائن تخييلي، يعد من الشخصيات السردية ي الرواية اسمه (إبراهيم سلام)، قام بترجمة الرواية إلى اللغة العربية. ويوغل الكاتب الواقعي في الإيهام، لما يقدم لنا توطئة عن هذا المترجم/السارد المتقن، فهو متخصص في الترجمة من اللغة الفلبينية إلى العربية والعكس، وهو من حاملي الشهادات المتخصصة في اللغة العربية بالكويت، قد عمل بالصحافة وكتابة المقالات عن العمالة الفليبينية الوافدة، لهذا كله هو الأقدر على ترجمة مثل هذا العمل. غير أن الذي يعيدنا إلى المناص التخييلي مرة أخرى، تلك العتبة النصية التخييلية (التصدير)، فقد قدم المترجم التخييلي (إبراهيم سلام)، تصديرا لكيفية ترجمته لرواية ساق البانبو، والجهد الذي بدله فيها، فنحن هنا أمام تصدير تخييلي للعمل المترجم، يذكر فيه كل الصعوبات الترجمية والخصوصيات اللغوية التي عجز عن نقلها، للاختلاف الثقافي بين اللغتين، والمرجعيات المعرفية العالمة والشفهية المختلفة أيضا، إلى جانب صعوبة نقل أسماء الأعلام، وفي الأخير يوهمنا بتخليه عن أي مسؤولية أدبية أو فكرية الواردة في النص الروائي المترجم. لتنقلنا هذه العتبة التخييلية إلى عتبة أخرى، هي عتبة المراجعة اللغوية بعد الانتهاء من العمل الترجمي، والتي تقوم بها شخصية تخييلية أخرى ذكر اسمها وهي (خولة راشد)، وقد شكرها المترجم على عملها المتقن، بهذا نكون أمام مناص ترجمي (تخييلي) مكتمل العناصر، ظهر في إحدى الأعمال الروائي التي شقت طريقها نحو احتراف التجريب في الصنعة الروائية. خاتمة بعد طول هذا المسلك البحثي، نجد أنفسنا أمام كتابة تجريبية حداثية، طبعت جيلا بكامله، وهي في استمرار مفكرة في طرائق كتابية، ومسالك سردية أخرى كفيلة بتحديث أشكال الرواية العربية ومواضيعها، وهذا ما يضطر الناقد لاجتراح آليات تحليلية تواكب هذا التحديث، وهذا ما اكتشفناه من خلال دراستنا لما تضمّنته روايات واسني الأعرج وربعي المدهون وسعود السنعوسي، إذ وجدنا هؤلاء الروائيين يجربون تقنية جديدة في الكتابة، احتجنا فيها لتفكير نقدي متجدد، فلم نكتف بما توقف عنده المشتغلون في حقلي السرديات والشعريات تحديدا، ولكن أردنا أن نبني من خلال تنظيراتهم، تنظيرا آخر لآلية نقدية شققناها من آلياتهم، لم يأتوا على ذكرها أو اشتغال عليها، وهي المناص التخييلي، الذي قمنا بتشغيله قصد قراءة هذه عتبات التخييلية، فمن قال أنّ الرّواية لا تفكّر في آلياتها القرائية التي ستكشف عن شعريتها وسرديتها. انتهى – للمقال مراجع