النشاط العسكري.. الكمائن والمعارك إن الكفاءة القتالية العالية والتسليح الجيد نسبيا الذي كانت تتمتع به وحدات كومندو الولاية الرابعة، جعل منها مجموعات مغاوير مكلفة بشكل خاص بإنجاز المهام الأكثر خطورة، والتصدي للمعضلات العسكرية التي كانت تواجه جيش التحرير في هذه الولاية، كما مكّنها ذلك في كثير من المعارك، من الوقوف الند للند أمام وحدات الجيش الفرنسي، وتحقيق انتصارات تعد اليوم مآثر خالدة في تاريخ جيش التحرير أثناء الثورة بهذه الولاية. ومن جهة أخرى أعطى تشكيل وحدات الكومندو بهذه الولاية دفعا قويا لوتيرة العمل الثوري المسلح، ورفع من نسق المواجهة العسكرية ضد العدو بعدما طور شكل العمل العسكري وكثف نشاطاته كمّا ونوعا. ولأخذ فكرة عن حجم وشكل هذا التطوّر في العمل العسكري لجيش التحرير بعد تشكيل هذه الوحدات، نأخذ كمثال المنطقة الأولى من الولاية الرابعة التي عرفت تشكيل أول وحدة كومندو. قبل صيف 1956م، كانت معظم العمليات العسكرية التي قام بها جنود جيش التحرير في هذه المنطقة لا تتعدى الأعمال الفدائية والتخريبية، وما يؤكد هذا هو ما ذكره Henri Bourdet أحد جنود الاحتياط الذي أرسل إلى الأخضرية في هذه الفترة، أين يذكر بأنه عندما وصل لم يكن يشعر بأي خوف، وكان هو ورفاقه على اتصال عادي بالناس، والتجوال في الأسواق، وبأن كل ما كان يحدث هو بعض عمليات التخريب أو تصفية بعض الأشخاص، ويختم وصفه للوضع السائد آنذاك بالقول: "لقد كان الأمر بالنسبة لنا أشبه بتمضية عطلة"، لكن سرعان ما تحوّلت عطلة Bourdet ورفاقه إلى جحيم بعد تشكيل مصطفى خوجة لوحدة الكومندو بالمنطقة، وباقي الوحدات في الولاية، حيث عرفت هذه المنطقة في الفترة الممتدة من 20 أوت 1956م إلى ديسمبر 1958م تنفيذ 333 عملية عسكرية كبرى، أي بمعدل 12 عملية تقريبا كل شهر، كان نصيب مساهمة المنطقة الأولى لوحدها فقط في الخمسة أشهر الأولى من هذه الفترة حوالي 47%، أي ما يقارب نصف العمليات المنفذة على مستوى كل الولاية، حيث دارت معظم الاشتباكات والكمائن والمعارك بضواحي الأخضرية وقادرية وسوفلات وعين بسام وتابلاط وبوزقزة والثنية. ونظرا لتركّز العمل الثوري العسكري بهذه المنطقة التي كان فيها مصطفى خوجة وكومندو علي خوجة فيما بعد، شنّ الجيش الفرنسي في المنطقة 585 عملية خلال الفترة أوت 1956م - نهاية 1958م، وفي معظم هذه العمليات، كان كومندو علي خوجة هو المستهدف. ولقد قاد العديد من هذه العمليات كبار قادة الجيش الفرنسي مثل الجنرال جاك ماسو الذي قاد عملية تمشيطية تحت اسم 15 NC" في الفترة الممتدة من 26 جويلية إلى غاية أواخر سبتمبر 1957م، شملت جبال المدية والأطلس البليدي، وابتداء من 10 جانفي 1958م قاد ماسو أيضا العملية التي أطلق عليها اسم "ديبابولو الغربية" شملت كل من المدية، الزبربر، بوزقزة، الأخضرية وتابلاط، كان هدفها القضاء على كومندو علي خوجة. وللتأكيد على التطور الذي حصل في مستوى ووتيرة العمل الثوري المسلح بالولاية الرابعة بعد تشكيل وحدات الكومندو، نورد باختصار بعض الأمثلة التي تضاف إلى ما ذكر سابقا - عن العمليات العسكرية التي قامت بها هذه الوحدات ضد الجيش الفرنسي من كمائن ومعارك. كمين باليسترو تمّ نصب هذا الكمين في منطقة جراح، 3 كلم شمال الأخضرية في 18 ماي 1956م، قام به علي خوجة انتقاما من الممارسات البشعة التي ارتكبتها وحدة من الجيش الفرنسي بتلك النواحي من قتل وحرق واغتصاب، لذلك، عندما سمع خوجة بما حصل، أصرّ على القيام بعمل ضد تلك الوحدة التي كان على رأسها الملازم Eric Artur أين تمكّن علي خوجة من تحييد 18 جنديا وأسر اثنين، في حين لم يجرح سوى مجاهد واحد هو عمر الشابلي. ويذكر الرائد عز الدين بأن في هذا الكمين كان هناك مواطنين شاهدوا لأول مرة انتصارا كبيرا للمجاهدين الذين انتقموا من القتل والاعتداءات التي تعرض لها مواطنون عزل من قبل هذه الوحدة، لذلك بعد انتهاء المواجهة التي لم تدم سوى 15 أو 20 دقيقة فقط نزلوا لمكان المواجهة ونكلوا بجثث أولئك الجنود. لقد ولدت هذه العملية سخطا كبيرا عند الرأي العام الفرنسي، لذلك طالبت الحكومة الفرنسية في باريس بتوضيح ما يجري في الجزائر، ذلك أن ما حصل في العاصمة وضواحيها من عمليات منظمة وناجحة كان يوحي بأنها ثورة حقيقية، وليس كما كان يتمّ تسويقه على أنه عمل "متمردين" و "خارجين عن القانون".. في المقابل، أدى هذا الكمين وغيره من العمليات الناجحة للمجاهدين إلى رفع معنويات الجزائريين القاطنين بالمنطقة وحمل كثير منهم على الالتحاق بصفوف التنظيم الثوري السياسي والعسكري. عملية سكامودي جاءت على إثر كمين نصبه مصطفى لكحل نائب علي خوجة لقافلة عسكرية في 25 فيفري 1956م، صادف أن كان ضمنها سيارة مدنية لعائلة فرنسية، قُتل فيها عدد كبير من الجنود، ونتيجة لحدة المواجهة وكثافة النيران، تعرضت تلك العائلة المكونة من زوجين وطفلة صغيرة للموت. استغلت الصحافة الفرنسية ما حصل في هذه العملية التي قتلت فيها هذه العائلة بالخطأ، بعدما وجدت فيها فرصة للتشهير بجيش التحرير من خلال وصف العملية بالجريمة وتصوير عناصر جيش التحرير للرأي العام الدولي تصويرا "همجيا" و "إجراميا"، أين افتتحت الصفحات الأولى لجرائدها بصورة العائلة تتقدمها الطفلة الصغيرة، ولقد استمرت هذه الحملة الإعلامية مدة أسبوع، وانتشرت على نطاق رحيب بعدما تمّ توزيع صور تلك العملية على دور السينما بالجزائر وفرنسا وتعليقها على الحافلات والشاحنات التي تجوب المدن والشوارع حتى يراها الجميع. لقد كانت هذه الحملة الإعلامية من أهم الأسباب التي جعلت قيادة الثورة في مؤتمر الصومام تعتب وتوجّه انتقادات للولاية الرابعة، بعدما اعتبر قادة الثورة بأن هذه العملية قد خلّفت آثارا سلبية على سمعة وصورة الثورة خارجيا، فضلا عن تزامنها مع طرح القضية الجزائرية للمناقشة في جلسة للبرلمان الفرنسي، الأمر الذي رأى فيه بعض هؤلاء القادة بأنه يدعم موقف غلاة المعمرين والمتشددين للاستعمار. كمين الداموس قامت به مجموعة من كومندو المنطقة الثالثة في 28 فيفري 1957م، تمكّن فيه عناصر هذه الوحدة من غنم عدد لا بأس به من قطع الأسلحة. كمين بني خلفون وقع هذا الكمين بتيارت (قادرية)، قام به كومندو علي خوجة بقيادة الرائد عز الدين، شارك فيه أكثر من 100 جندي. يذكر عنه عز الدين بأنه لم يستغرق سوى دقائق معدودة جدا، تمكنوا فيه من جمع رشاشين FM و26 قطعة سلاح بالإضافة إلى الذخيرة والألبسة. كمين حمام ريغة قامت به ثلاثة أفواج من الكومندو، الأول بقيادة سي الزوبير، والثاني بقيادة سي موسى قلواز، والثالث بقيادة أحمد خلاصي مساعد سي موسى ضد قافلة عسكرية مشكلة من 05 شاحنات GMC وسيارة Jeep وحوالي 120 جنديا، قتل فيه قائد القافلة وثلاثة ضباط. كمين الواد الأكحل بصور الغزلان، شارك فيه كومندو علي خوجة (140 جنديا) بقيادة الرائد عز الدين ونائبه سي عبد النور، بالإضافة إلى فصائل من جيش التحرير، تمكنوا فيه من إصابة دبابة ومصفحتين. هناك أيضا كمائن أخرى كثيرة قامت بها وحدات كومندو هذه الولاية، غير أن ما تجدر الإشارة إليه هو أن كثيرا من هذه الكمائن قد تحوّلت إلى معارك كبيرة عندما كان يتعرض المجاهدين للوشاية، أو عندما تطول مدة الاشتباك بالشكل الذي يسمح لقوات الطيران بالتدخل، أين كان يتحوّل الكمين إلى حصار للمجاهدين يدوم في بعض الأحيان لأيام خاصة بعد جلب القوات الفرنسية مختلف التعزيزات العسكرية. معركة لغمونة البحري جرت في الناحية الثانية من المنطقة الرابعة بالقرب من تنس، في 12 نوفمبر 1956م، شارك فيها فوجان من الكومندو بقيادة سي محمد البيام، ومداح محمد المدعو سي صالح، كما شاركت فيها وحدات من جيش التحرير تحت قيادة أحمد التابلاطي. معركة سيدي امحمد أقلوش في 26 أفريل 1957م بشرشال، درات هذه المعركة بين قوات العدو وكومندو سي الزوبير الذي كان تحت إمرته 32 جنديا. ولقد حدثت هذه المعركة إثر رغبة المجاهدين في الانتقام من الأعمال البشعة التي قامت بها قوات المظليين ضد سكان هذا الدوار. معركة بوزقزة يذكر الرائد عز الدين بأن المجاهدين في هذه المعركة قد واجهوا قوات كبيرة من الجيش الفرنسي كان على رأسها 04 جنرالات هم ماسو، سيمون، آلار وديجوايو. وعلى الرغم من ذلك تمكّن المجاهدون من تحقيق نجاحات كبيرة، وهو ما اعترف به الجنرال ماسو للرائد عز الدين عند مقابلته له بعد إلقاء القبض عليه سنة 1958م. معركة واد الآخرة أو أوقنوندة وقعت في الناحية الثانية من المنطقة الأولى في 22 ماي 1957م، شاركت فيها وحدة كومندو علي خوجة إلى جانب جنود الكتيبة السليمانية وفصيلة سي بوعلام بلغ مجموعهم 350 جنديا ضد 700 جندي فرنسي مدعم بالدبابات ومدفعية الميدان والطيران. كان سبب هذه المعركة هو قيام الجيش الفرنسي بحملات تمشيط لأعالي جبال البليدة بعد وصول الكولونيل بيجار معلومات عن وصول قادة لجنة التنسيق والتنفيذ إلى هذه المنطقة بعد فرارهم من العاصمة، ما أدى إلى اصطدامهم بجيش التحرير وحدوث عدة معارك وصلت إلى الأخضرية وتابلاط والزبربر، خاصة وأن الجنرال Huet كان يسعى للقضاء على كومندو علي خوجة، وأيضا Lebel قائد فرقة الصبايحية الذي كان يرغب في الأخذ بانتقام والده الذي وقع في كمين لأفراد كومندو علي خوجة في شهر أفريل الماضي، غير أن هذا الأخير لم ينجُ بدوره من كمين هذا الكومندو في دشرة الزرايعية بالواد المالح، أين تمّ فيه القضاء على فرقته التي لم ينج منها سوى 08 جنود، الأمر الذي جعل الجنرال سيمون يعلن في نفس اليوم عن عملية تمشيطية بالمنطقة ساعده فيها الكولونيل بيجار الذي كان مكلفا من الجنرال "سالان" بمهمة القضاء على كومندو علي خوجة بعدما بات يهدد الكيان الفرنسي بالمنطقة. معركة سوفلات شاركت فيها كتيبة كومندو علي خوجة رفقة ثلاثة كتائب أخرى (العثمانية، السليمانية، الرحمانية)، في 17 نوفمبر 1958م،.. قدرت قوات العدو بحوالي 15 ألف جندي تحت قيادة الجنرال ماسو والكولونيل ترانكي وغيرهما. جاءت هذه المعركة ضمن العمليات الكبرى التي قام بها الجيش الفرنسي للقضاء على جيش التحرير بالمنطقة الأولى، وفي هذه المعركة أصيب الرائد عز الدين وألقي عليه القبض، وبحلول المساء تمكّنت 05 فصائل من وحدة الكومندو من الفرار والتسلل باتجاه بني خلفون (قادرية) التي مكثوا فيها 04 أيام، لتجري بعدها معركة ثانية بعد تفطن العدو لهم أي في 22 نوفمبر، ولما كان المكان غير ملائم للمعركة، اضطرت تلك الفصائل للانتقال من بني خلفون إلى جبل سيدي أحمد الساسي، أين تمكن أفرادها من تحقيق تفوق ميداني قبل انسحابهم الذي ساعدهم عليه تقلب الجو (الضباب). كانت هذه المعركة هي الأعنف بالمنطقة منذ اندلاع الثورة، قدر الفرنسيون حصيلتها ب138 قتيل و25 أسيرا في صفوف المجاهدين، وحجز 86 قطعة سلاح، في حين ذكر تقرير الولاية الرابعة بأن جيش التحرير فقد 90 شهيدا. معركة سيدي علي بوناب نسبة لجبل سيدي علي بوناب الذي يقع في المنطقة الحدودية بين الولايتين الثالثة والرابعة، كانت هذه المعركة هي آخر معركة في 06 جانفي 1959م، شارك فيها الرائد عز الدين على رأس كومندو علي خوجة قبل أن يلتحق بتونس، أين يذكر بأن جنوده تمكنوا من تصفية الرائد غرادزياني الذي اعتقل المجاهدة جميلة بوحيرد، كما سقط في هذه المعركة العقيد "غراسيا" بعد اشتباك جسدي مع ملازم من جيش التحرير. الحلقة الثالثة