تتخذ حرب الذاكرة بين الجزائروفرنسا شكلا مستمرا، وتبدأ دائما بمحاولات الطرف الفرنسي العودة إلى بعض الأحداث التاريخية لقراءتها من جديد. ويشكّل كمين "باليسترو"، الذي نفّذه كومندو علي خوجة ضد فصيلة الملازم الأول هيرفي أرتور، يوم 18 ماي 1956، أحد مظاهر حرب الذاكرة. ويريد الطرف الفرنسي تشويه التاريخ وتجاهل الممارسات البشعة للجيش الفرنسي. ففي حالة كمين "باليسترو" لم يتطرّق المؤرخون الفرنسيون إلى المجزرة التي ارتكبها الجيش الفرنسي في حق سكان قرية "جراح"، أين وقع الكمين، حيث تم إبادة عائلات بأكملها بالغاز. ونحن متوجهون إلى “عَمال” لإجراء هذا الروبورتاج حول كمين “باليسترو” الشهير، كحدث تاريخي غيَّر مجريات حرب التحرير، لم نكن ندرك سوى الأمور التاريخية المعروفة والمتداولة بين المؤرخين، وهي أن الأمر يتعلّق بكمين نصبه كومندو علي خوجة، الشهير بقرية “جراح”، بالقرب من باليسترو (الأخضرية حاليا)، يوم 18 ماي 1956، ما أودى بحياة واحد وعشرين جنديا فرنسيا، في معركة حاسمة دامت ربع ساعة، بيد أن وقعها على مجريات الحرب كان كبيرا. كنا ندرك أن الطرف الفرنسي استغل الحادثة لتشويه صورة جيش التحرير الوطني، حيث قدّمته الدعاية الاستعمارية في “صورة بشعة إجرامية”، وتم التركيز على مسألة “الخصي” الذي تعرض له الجنود الفرنسيين، حسب وسائل الإعلام الفرنسية، إضافة إلى التنكيل بهم، وتشويه أجسادهم. وكانت تلك الدعاية المقيتة ترمي إلى إضفاء طابع التوحش على جنود جيش التحرير. لكن ما كنا نجهله، ولم نعثر له على أي أثر، أثناء جمع المعلومات قبل التوجه إلى “عَمال” الواقعة على بعد بضعة كيلومترات عن بني عمران، في الطريق بين الجزائر العاصمة والبويرة، هو أن الجيش الفرنسي كان له رد فعل بربري، حيث قام بارتكاب جريمة إبادة ضد سكان “جراح” عقب وقوع الكمين. بمجرد أن وصلنا إلى “عَمال” في الصباح، عند حدود التاسعة والنصف، وجدنا في استقبالنا مجاهدين ومسبلين من أبناء المنطقة، وعلى رأسهم محمد شارف، أحد المهتمين بتاريخ المنطقة. جاء الجميع لحضور ندوة تاريخية حول “كمين باليسترو”، الذي وقع في قرية جراح. ذكرى الشيخ المقراني تخيّم على أحفاده كان علينا التصفح في الأرشيف وكتب التاريخ للتقرب من الحدث، وبعد بحث معمق ومضن، عثرنا على شريط وثائقي أعدّته المؤرخة الفرنسية رافائييل برانش، وعرضته قناة “آرتي” سنة 2012 بعنوان “كمين باليسترو”، حيث استنتجت أن اختيار “باليسترو” لم يأت بشكل اعتباطي، بل جاء نتيجة أحداث تاريخية سابقة، واستنادا إلى رغبة استعمارية تريد إبراز “الجانب الدموي” للوطنيين الجزائريين، ففي “باليسترو” تم اغتيال سبعة وخمسين معمّرا فرنسيا، لما قامت ثورة المقراني سنة 1871، وهناك قام مجتمع استعماري قائم على الاستيلاء على أراضي الأهالي، وطردهم إلى الأماكن الجرداء. وقبل أن تخرج الفيلم الوثائقي، حلّلت رافائييل برانش طبيعة النظام الاستعماري الفرنسي في الجزائر، عبر حادثة ‘'كمين باليسترو''، في كتاب صدرت طبعته الجزائرية عن منشورات ‘'القصبة''. واستنتجت أن الكمين كان له وقع عميق على صيرورة الحرب، إذ تناولته وسائل الإعلام الفرنسية بشكل مكثّف، وأصبح مرادفا لحرب فظيعة ‘'رفضت أن تقول اسمها آنذاك''، مكتفية بفكرة الوزير فرانسوا متيران الذي تحدث عن استتباب الأمن. المسبّلون كقوة ضاربة للثورة بقينا في “عَمال” نحاور أبناء قرية “جراح” الذين عايشوا الحدث، بعضهم كان صغيرا، لكنهم يذكرون كثيرا من الأحداث، وبعضهم الآخر عمل كمسبّل ثم تحوّل إلى مجاهد. ويذكر الرائد عز الدين، في مذكراته، أن عدد المسبّلين في هذه المنطقة لوحدها بلغ سنة 1955 قرابة ألف شخص، وكانوا مسلّحين ببعض بنادق الصيد وبالخناجر والفؤوس، وقد ساهموا في تنظيم عدة عمليات تخريب ضد مواقع المعمّرين في المنطقة. أخبرونا أن العلاقة بينهم وبين المجاهدين المنضوين تحت قيادة سي لخضر، قائد المنطقة الأولى التابعة للولاية الرابعة، كانت حسنة، وقد تبنوا الثورة في أيامها الأولى. كان سي لخضر قائدا ذائع الصيت، اسمه الحقيقي هو رابح مقراني، وهو سليل عائلة الشيخ المقراني الثورية. التحق بالثورة وعمره لم يكن يتجاوز سن العشرين، فعوّلت عليه جبهة التحرير لتنظيم الثورة في منطقة “باليسترو” وعين بسام، رفقة علي خوجة. جعل سي لخضر من منطقته مكانا لمعارك عديدة ضد العدو الفرنسي، واستطاع أن يزرع الرعب في أوساط المعمّرين. اشتهرت قرية “جراح”، حسب هؤلاء المسبّلين، بأنها كانت أحد مراكز قائد الولاية الرابعة العقيد أعمر أوعمران، على سفح الجبل قريبا من “عَمال”. وهناك التقى الصحفي الفرنسي روبير بارات بأوعمران، وأجرى معه حوار صحفيا نُشر بصحيفة “فرانس أوبسيرفاتور”. أوعمران الذي التحق بالجبل منذ ثماني سنوات استجاب لطلب عبان رمضان، ووافق على إجراء الحوار، كعمل دعائي في صالح الثورة. وبعد نشر الحوار ذاع صيت منطقة باليسترو– عَمال– عين بسام كمحور أساسي للثورة. في تلك المرحلة قرّر “غي مولي”، رئيس المجلس الفرنسي، استدعاء الجنود الاحتياطيين الفرنسيين لكسر الثورة. فارتفع تعداد الجيش الفرنسي إلى خمسمائة ألف جندي. وكان “غي مولي” يسعى لتحقيق نصر عسكري بأي ثمن، بعد أن استقبله الأقدام السوداء في شهر فيفري 1956، بمظاهرات عنيفة، جراء إقدامه على تنحية جاك سوستيل، الذي حقّق، حسب هؤلاء الأقدام السوداء، انتصارات لا يمكن نكرانها على جبهة التحرير. وظنّ هؤلاء أن تعيين الجنرال كاترو، الذي سبق له وأن عُيّن حاكما عاما على تونس، سيؤدي إلى التخلي عن الجزائر للسكان الأصليين. لكل هذه الأسباب تشدّد “غي مولي” وأرسل الجنود الاحتياطيين، فكان على جيش التحرير الوطني اتخاذ قرارات في اتجاه إبراز صرامة الثورة، وعدم التفريط في مطلب الاستقلال الكامل، في الوقت الذي اعتقد فيه سوستيل أن “ربع ساعة الأخير” من الحرب كان في متناوله، وأن الانتصار على جبهة التحرير وشيك لا محال. وجاء ردّ جبهة التحرير صارما، حيث كُلّف كومندو علي خوجة بتدبير الكمين بقرية “عَمال”، وإظهار تمسّكه بالثورة. من بين هؤلاء الجنود الذين وصلوا إلى الجزائر حديثا، وهم شبان في مقتبل العمر، ويؤمنون بالمهمة “الحضارية” لفرنسا، عشرون جنديا، كلفوا بحماية الطريق الرابط بين الجزائر وقسنطينة، عند منطقة “باليسترو”، تحت إمرة الملازم أول هيرفي أرتور. وبدل التقيّد بالتعليمات الموجهة إليه، قرّر هيرفي أرتور التوغل وسط السكان في القرى النائية. ويذكر كثير من المسبّلين الذين التقينا بهم، منهم الوناس حداد، بأنهم نقلوا معلومات دقيقة لكوموندو علي خوجة، الذي نصب الكمين في المكان المسمى “جراح”. وذكروا أن الكومندو كان مدججا بالأسلحة الآلية التي كانت تُمنح للنخبة، وكان يتكوّن من خيرة جنود جيش التحرير، فوقع الكمين في مكان صخري، وفّر الحماية الكافية لعناصر الكومندو، ودام الاشتباك ربع ساعة، انتهى بالقضاء على خمسة عشر جنديا فرنسا، وأسر ستة منهم، ولم ينجو سوى الجندي بيار دوماس، الذي لا يزال على قيد الحياة، وهو عضو فعّال في الفيدرالية الفرنسية لقدماء محاربي تونسوالجزائر والمغرب. وبعد وقوع الكمين، ذاع صيت كومندو علي خوجة، وتداولت الصحف الفرنسية الحدث، الذي شكّل انتصارا لا يقل أهمية عن الحدث الذي أفرزته هجمات الشمال القسنطيني في أوت 1955، حيث تأكد الطرف الفرنسي أن جبهة التحرير الوطني لن ترضى بغير الاستقلال. وهو ما أدى إلى إعادة النظر في المفاوضات التي كان يريدها غي مولي مع بعض قادة الثورة. وبفضل الكمين تمكّن جيش التحرير من بسط سيطرته على المنطقة بشكل كامل، فتأكدت تصريحات العقيد أوعمران في وقت سابق، حيث صرح أنه يملك قوة قتالية تقدّر بألف مسلح، مدعّمين بأكثر من ألفي مُسبّل. علي خوجة.. الحرب بقدرات خارقة التحق علي خوجة بالثورة في أكتوبر 1955. اسمه الحقيقي هو مصطفى خوجة. وُلد يوم 12 جانفي 1933 بالجزائر العاصمة، نشأ في أحضان أسرة متوسطة الحال. لما بلغ سن ست سنوات دخل مدرسة ابتدائية تعلم فيها مبادئ اللغة الفرنسية، وأدرك الفروق المتواجدة بين أبناء الأوربيين وأبناء الأهالي. فرّ من ثكنة بلكور، أين كان يؤدّي الخدمة العسكرية، والتحق بالمنطقة الرابعة، فتحوّل، حسب شهادة الرائد عز الدين، إلى المجاهد المفضّل عند عمر أوعمران قائد المنطقة، فعيّنه قائدا لمنطقة الأخضرية برتبة ملازم، تاركا له مطلق الحرية لتشكيل وقيادة كومندو اختار له أفضل المقاتلين، بغية القيام بعمليات نوعية. وشكّل علي خوجة وحدة قتالية بالتعاون مع سي لخضر قائد المنطقة الأولى. وبحسب مصطفى بليدي، فإن “الكومندو” أنشئ فعليا بقرية “بوكرم”، خلال مطلع سنة 1956. وأضاف بليدي، وهو أحد أعضاء الكومندو، أن القيادة الفرنسية كانت تنعته بالكومندو41. ويذكر الرائد عز الدين أن علي خوجة “كان مدعوما بحظ أسطوري، يطير من نصر إلى نصر، وكان أول من تجرأ على الخروج نهارا وتحدى وحدات العدو. وكان رجاله المختارون بعناية يفخرون بأنهم رأس حربة قوات جيش التحرير، معتزين بمظهرهم وسلاحهم، مع شيء من الكبرياء”. تكوّن “كومندو” علي خوجة من 110 مجاهد، وكان مدججا بالأسلحة الآلية. وبحسب المجاهد محمد الشريف ولد الحسين، فإن الكومندو شكّل نواة ثورية حقيقية، بحيث انتقل كثير من أعضائه إلى ولايات أخرى لتكوين وحدات قتالية مماثلة. وأدت قوة رفاق علي خوجة، والنجاح الذي تحقق عقب كمين “باليسترو”، بالقوات الفرنسية إلى تكثيف تواجدها بالمنطقة، حيث قام الجنرال ماسو بنقل قوات إضافية لمحاصرة المنطقة بكاملها. ويروي سكان قرية “جراح”، الذين التقينا بهم، منهم “الخير فريخ” الذي كان شاهدا على ردود فعل الجيش الفرنسي عقب الكمين، أن عدد الجنود الفرنسيين الذين توغلوا إلى المنطقة فاق كل التوقّعات، ويذكر أن الردّ كان عنيفا، بالأخص بعد أن أدرك المكتب الثاني الفرنسي حقيقة الانسجام الموجود بين جبهة التحرير والفئات الشعبية. ما يزال “الخير فريخ”، يتذكّر الشهيد علي خوجة، الذي مكث في بيت عائلته مرات عديدة، وعاد بنا إلى القمع الذي سلّطه الجيش الاستعماري على سكان “جراح” وبلمو، حيث قتلوا أكثر من خمسين شخصا. وأخبرنا هؤلاء الشهود أن الجيش الفرنسي ارتكب جريمة حقيقية في حقّ سكان المنطقة كردّ فعل على الكمين. وكشفوا لنا أن عائلات كاملة فرّت من بطش الجيش الفرنسي، ولجأت إلى مغارة “ثفراوث” قريبا من “جراح” للاختباء. وبعد أن تم اكتشاف أمرهم قامت القوات الفرنسية بسدّ المنفذ الوحيد للمغارة، وقامت بقتل المختبئين بها بواسطة الغاز. وأبدى حميطوش محمد الصغير، مسؤول منظمة أبناء الشهداء بعَمال، تذمّره من كتاب المؤرخة الفرنسية رفائييل برانش، التي لم تتطرق لهذه المجزرة التي ارتكبت في حق سكان جراح. وأكد شهود عيان، دخلوا المغارة، مطلع الثمانينيات، تواجد أكثر من ستين جثة داخلها. شكّل كمين “باليسترو” منعرجا حاسما في تاريخ حرب التحرير، وأدى إلى تشدّد الجانب الفرنسي، وعزم جيش التحرير على المضي بالثورة قدما، ومن بين ردود الفعل الإجرامية التي اتّخذتها فرنسا، إعدام أحمد زبانا بالمقصلة يوم 19 جوان 1956 بسجن سركاجي.