في الحلقة السابقة، تحدّث البروفيسور عبد الرزاق بلعقروز عن أسلوب ظهور أخلاق ما بعد الواجب، بوصفها نموذج عيش أو خطاب أو حالة من الوجود، تشتقّ مفاهيمها من الذوق، لا من المنطق، وتشعر بالسعادة عندما تلبي مطالب الجسد؛ لا بالاستجابة إلى قانون الواجب الذي يعترف بالسعادة باعتبارها غاية للفعل الأخلاقي، فهي علامة على نهاية الوعي الفكري والاستعاضة عنه بالوعي النفسي والنرجسي، وهذه الخلاصات الثقافية التي بانت بها العتبة الثانية من العلمنة الأخلاقية، إنما تتغذى في رؤيتها للعالم والذات والوعي والسعادة ونسق المجتمع من أصول فلسفية لم تكن لها المنزلة الحضورية في جوانب الفلسفة الحديثة، بسبب تسيّد مفاهيم الحداثة العقلية وقيم الأنوار المستقيمة وقيم الواجب مهما كان الثمن.. والآتي، بقية المقال. كان لمباحث الميتا- أخلاق التي تقضي بتطبيق منهج نظرية المعرفة على الأخلاق، وتطبيق المنهج نفسه على البنية المنطقية للأحكام الأخلاقية، أثره في الأخلاق، ليس في نقاشاتها النظرية بل في أسبابها العملية، فالهوس بمنهج التحقّق، بخاصة في صيغته لدى الوضعية المنطقية، قد جرى تطبيقه على عالم الملفوظات الأخلاقية، فالشيء الذي غفلت عنه المباحث الأخلاقية أنّ الأوامر والنواهي أو الانفعالات والإرشادات هي لغة مخصوصة، ولأنّ الأمر هذا فالواجب هو تنزيل أدوات منهج التحقّق التحليلي على هذه اللّغة الأخلاقية، والغرض الإجرائي هو إنشاء مبحث يهتم بما بعد الأخلاق المعيارية، حيث يمكن القول إنّ التمايز بين ما بعد الأخلاق المعيارية قد عرف حضوره في الفلسفة الأنكلوفونية (التحليلية)، وبظاهرة لافتة، أما من جهة المفهوم فما بعد الأخلاق أو الميتا إتيقا فهي دراسة معنى المصطلحات الأخلاقية والعلاقة المنطقية بين الأحكام الأخلاقية وأشكال أخرى من الأحكام، والوضع الإبستيمولوجي للأحكام الأخلاقية (هل يمكننا الحديث عن معرفة بشأنها؟ هل هي تعبير عن شعور؟)، وكذا عملية تبريرها والوضع الميتافيزيقي للخصائص الأخلاقية، بغض النظر عن أيّ تصوّر إتيقي خاص. ويرى الذين يقسّمون الأخلاق بهذا الشكل أنّه يتعين على الفلسفة الأخلاقية أن تهتم أساسا، إن لم يكن حصرا، بالميتا - إتيقا. إنّ الميتا أخلاق ضمن هذا المبحث تجري التمييز المعهود في الاستعمال، بين الدلالة الوصفية والدلالة الانفعالية واللّغة الأخلاقية، إنما تسكن المدلول الثاني، إنّها أشباه قضايا لخلوّها من المضمون المعرفي وتكشف هذه الصلات استعمال الوضعيين المناطقة لاستراتيجية معنى المعنى، من أجل الدفاع عن لغة العلم، وطرح اللّغة القيمية ونفيها إلى ما وراء عالم العقل والعلم. ولا يعني ذلك أنّ الوضعيين المناطقة قد قدموا نظرية إيجابية في القيم، ذلك أنّ مثل هذه النظرية من اختصاص الفلسفة ". فعلاً، فإنّ وضع لغة الأحكام الأخلاقية تحت مجهر المنهج الميتا - أخلاقي يسهم في التوضيح المنطقي والتحليلي لبنية أحكامنا الأخلاقية، خاصة أنّ الأخلاق والمنهج لا ينفصلان. إنّ السيولة الاصطلاحية والدلالية للرؤى والأحكام الأخلاقية إنما تجد أساسها في كون "فلاسفة الأخلاق يشتغلون تحت رعاية الأنظمة الأخلاقية المسبقة، بينما يظهر المنهج التحليلي بوصفه انعكاسا على لغة الأخلاق، وهي الميتا أخلاق، هذه الأخيرة اليوم؛ من أكثر الحقول خصوبة، ومستلزم هذا الاستخدام الخاطئ لأنظمتنا الرمزية، تحت الأوامر الأخلاقية المسبقة، عطالة المباحث الأخلاقية في نموها واستقلالها، مقارنة بالمباحث العلمية. وإنّ مفتاح تخطي هذا الإشكال أن تتولى الفلسفة دور العلاج والإيضاح لبنية اللّغة الأخلاقية ولمنطق اشتغالها، يقول لودفيغ فيتغنشتاين: "لا يمكن لأيّ منطوق وقائع أن يكون، ولا أن يتضمن حكم قيمة مطلق (...) إنّ كلماتنا كما نستعملها في العلم سفن لا تستطيع غير أن تحمل الدلالة والمعنى وتنقلهما - الدلالة والمعنى الطبيعيين. إذا كانت الأخلاق موجودة، فإنّها فوق طبيعية، بينما كلماتنا لا تريد التعبير سوى عن وقائع"، والراشح من هذه التقدمة التحليلية، توجيه التفكير من اللّغة إلى الاستعمال، وصرف النظر عن المعاني المثالية، بخاصة المطلقة منها، والانغراس في الفعل والاتصال اليومي، إنّ اللّغة قالب لا تحتمل إلا ما يوضع داخله، وخطأ التفكير أنه ينقل المعاني من أحداثها الحسية إلى المعاني المطلقة، أو من الوقائع الأصلية إلى التشبيهات الاستعارية، والمثال الذي يظهر هذه الفكرة قولي إني مندهش من وجود العالم، فالواقعة الأصلية لهذه العبارة أنني مندهش من بيت هدم بينما عبارة أنني مندهش من وجود العالم، لا معنى لها، فليس في قصبتي المفكرة ولساني المتلفّظ وسيلة معرفية تُطلعني على أنّ هذا العالم من الممكنات وليس من الموجودات. لقد اعتبرت الميتا - أخلاق أنّ مشكلة الأسس الأخلاقية تماثل مشكلة الأسس المنطقية وثوابتها، "إنّ الأسئلة التي تطرحها الميتا - أخلاق تلتقي مع حقول فلسفة اللّغة الأخرى بشكل كثير (...) إذا كان من الضروري تقديم مبادئ أخلاقية، يبدو أنّه من الضروري أيضًا التساؤل حول وضعها المنطقي، ونطاق تطبيقها، وشموليتها. يجب أيضًا على الأخلاق أن تتخذ موقفا تجاه المبادئ الأساسية للمنطق، مثل مبدأ عدم التناقض هل يجب أن تكون القواعد الأخلاقية متناسقة تماما بصورة مسبقة، أم يمكن أن تظهر تناقضات ظاهرية". وليس موضوع الميتا-أخلاق الأمر المعياري، أو الأخذ بأيدي الناس نحو سلوك معين، أو تبني رؤية أخلاقية معينة، وغرضها المنهجي هو صرف البحث عن الأخلاق المعيارية، وتحويل موضوع الأخلاق إلى إبستيمولوجيا اللّغة الخلقية. إنّها أقرب إلى التقارير العلمية عن نشاطات الناس، منها إلى المثل التي يرتكزون عليها في تأويل أفعالهم، ولذلك تعاضدت في الميتا - أخلاق علوم أخرى عدا المنطق واللّغة، مثل نظرية المعرفة وعلم الاجتماع وعلم النفس. فهي أقرب إلى الوصف الموضوعي، منها إلى الترغيب القيمي. لقد ساهمت هذه التحليلية الإبستيمولوجية في تصفية النظم المرجعية المتعالية للأخلاق، بخاصة النظم الدينية والعقلية، وبات التداول والاستعمال في فضاء عمومي يبتغي التأثير باللّغة هو النموذج السائد، بينما تركت أوامر الفلسفة المعيارية والإلزامات العقلية تسكن في مفاهيمها الساكنة، وفتحت الفضاء لأجل الفعل انطلاقا من اللّغة الواقعية والوصفية والحيوية والاستعمالية، وبناءً عليه، فهي لحظة من لحظات فصل اللّغة عن القيمة، هذا الفصل أضاف مبرراً إبستيمولوجيا إلى العتبة الثانية من العلمنة الأخلاقية، فعندما تفصل اللّغة عن القيمة، يكون الكلام منغرسًا في التواصل والتداول، مستعملاً لأجل تلبية المتع الاستهلاكية، ولأجل إفراغ اللّغة من المضامين الأخلاقية، والاكتفاء بالمضامين الاستعمالية، ومن ثمّ، الإسهام في جفاف الفلسفة الأخلاقية المعاصرة. ونظرًا إلى هذا التضمين الانفصالي عن القيمة بوساطة منطق التحليل اللّغوي، وحذف الجوانب الانفعالية والإرشادية للّغة، اعتبر جون ولسون في كتابه "العقل والأخلاق" ما فعله الفلاسفة [الميتا - أخلاقيون] هو أنّهم أرونا الهيكل المنطقي لتفكيرنا الخلقي (...) ثم تركونا وشأننا. وبالفعل، فإنّ الحياد في المسائل الأخلاقية لا يحلّ المشكلة بل يتركها للذات النفسية التي إذا لم تجد معياراً كليا ترتكز عليه، فلن يبقى أمامها إلا الفضيلة الشخصية، والمقياس الذاتي للقيمة الخلقية، والحرية التي انتحلت صفة تعيين القيم كلّها. وهكذا، فإنّ الميتا - أخلاق لا تفهم من المفاهيم الأخلاقية إلا مستواها الوصفي، بينما الأخلاق حاوية على الدافعية الانفعالية والإرشادية السلوكية. أتاح لنا ما سبق أنّ أصول العتبة الثانية من العلمنة الأخلاقية، في ضوء النماذج التي سقناها، من جون ماري جويو إلى ماكس شتيرنر، إلى التحليل المنطقي للّغة الأخلاقية، قد قادت البحث الأخلاقي إلى ما بعد الفلسفة المعيارية، أو بالأفصح إلى ما بعد الأخلاقية التي فاقمت من الرغبة بعد أن كان الخطاب الأخلاقي يطمح إلى تنظيمها، فالسعادة والأنا والإغراء والجسد هي عناوين الفعل الأخلاقي ما بعد المعياري، وهي ليست مجرد تحوّلات ثقافية أناسية، بقدر ما هي أصول فلسفية تبشر بنهاية المتعالي، وتثبت فيض الطاقة الحيوية، وتهجر المثالي والكلي لأجل الواقعي والفرداني، وتبصر في المعيار حكمًا أخلاقيا مسبقا، وتطبق التفكيك على بنية المنطقية، تمهيدًا لنزع القداسة عنه. ما بعد العتبة الثانية من العلمنة الأخلاقية ليس الإقرار بتسيّد العتبة الثانية من العلمنة الأخلاقية بالمدعاة والتقول بنهاية القيمة والمعيار، لكن لا بد لنا من الوعي بالجوانب الإيجابية للأفكار التي أشرنا إليها في التحليل، وإذا كان المطلوب منا تجاوزها، فإنّ التجاوز هنا لا يعني نفي قيمتها رأسًا، إنما جني الجوانب الإيجابية منها والاتفاق على أهمية الخطوط النقدية التي فتحتها هذه المناحي، ويمكن أن نرصد منها : 1. حقيق بنا القول إنّ الفلسفة المعيارية كانت في علاقة نسيان مع الكينونة الواقعية للإنسان ومكابداته وآلامه، كانت تجد كمالها الذاتي في قيمتها المعيارية، وليس في الاعتناء بالحياة الانفعالية والوجدانية الملموسة، ونظرًا إلى هذه المسافة بين عالم المعنى وعالم الذات، ظهرت مناح فلسفية أخلاقية، لا تنطلق من الواجب الأمر بل من الجزء الحيوي المسكون بالألم والبحث عن المعنى. غير أننا وضمن آفاقنا الفكرية ليس الأقوم في ضوء التحديات الجديدة هو الانتصار للمعياري على حساب الحيوي أو العكس، بل شقّ مساحة خضراء تقرب المعياري إلى المحايث، وترتفع بالحيوي من الانحصار في الحقوق الذاتية والأنا والسعادة، إلى جودة الحياة وفن العيش الحكيم. ويمكن أن نسمي هذا الشرط الاطمئنان الأخلاقي"، وهو صفة نفسية وروحية مكانها بين الذاتية الرغوبة والأصولية الأخلاقية، وسيرها يبدأ من الاطمئنان في إصدار الأحكام الأخلاقية التي يقصد منها سريانها، بشكل مشروع عبر الثقافات، وفي استحقاق السعي إلى إقناع الآخرين بمشروعيتها على حدّ سواء.. إنّها الأخلاق السياقية التي تفهم الأخلاقي بوصفه متعاليا، وبوصفه مطلقا، وبوصفه محايثا، وبوصفه متجاوزا. 2. من المكاسب الإيجابية التي تتراءى لنا من الميتا - أخلاق، اليقظة من سوء استعمال ملفوظاتنا الأخلاقية، والوعي ببنائها المنطقي والمعنوي، فكما أنّ المنطق هو آلة الفكر المنهجية، فإنّ حاجتنا إلى الاستدلال على أحكامنا الأخلاقية أشدّ أهمية، لأنّ الأخلاق ترتبط بعالم الحياة وليس بدائرة التفكير فحسب؛ يمكن القول إذا "إنّ للميتا - أخلاق وظيفة معيارية قوامها عقلنة حياتنا الخلقية، بإعادة تنظيم لغتنا، وتفكيرنا الخلقي، ولا يمكن التسليم بشرعية البحث الميتا- أخلاقي ما لم تسلم أولاً بأنّنا نريد أن نصير أكثر عقلانية (...) إنّ التوضيح المنطقي لبنية الأحكام الخلقية ذو قيمة كبرى في الحالات المشكلة والمختلف فيها. إنّ المنهج الميتا أخلاقي ضروري لإزالة الالتباسات في مناقشاتنا، والحيلولة دون الانخداع بالتفسيرات المضلّلة للحياة الخلقية. 3. إنّ أساسيات السياق والاستعمال والاطمئنان في الهيئات الخلقية تفكير خارج ثنائية المعياري والما بعد أخلاقي، بخاصة سياق الخصوصيات الثقافية العربية، التي ما زالت منظوماتها الأخلاقية المعيارية تغذي عوالم الفكر والسلوك، لكنّها تغذية نسقية أقرب إلى الفلسفة المعيارية التاريخية في السياق الغربي؛ لذا، فإنّ تحريك السكون في القول الأخلاقي العربي مشروط بإدخال قيمة السياق والذكاء والتوازن والتوافق والاستنباط من المعاني نحو الوقائع والمسالك غير المعهودة وهذا هو جوهر الأخلاق التطبيقية - الاستعمالية التي من خلالها نقيم سلسلة التكامل بين المعيار وأتون الفعل، أو بالأفصح لا بد من الوسيط الأخلاقي الذي ينير الدروب للمجتمعات العربية كي تسلك في أفعالها وتحدياتها الجديدة بالأخلاق المطبقة وليس بالمواعظ المطلقة فحسب، فقضايا العدالة والكرامة والتغيير والحرية والتحوّل الثقافي والمشترك الأخلاقي الإنساني، على الرغم من صلابة منظومة القيم في الثقافة العربية، فإنّ الوسيط الأخلاقي لم يقتدر على إيجاد صيغ عربية أصيلة لهذه المفاهيم التي ظهرت بسبب الظروف والتحديات. من هنا، تأتي فكرة تدعيم خطاب الأخلاق المعيارية العربية وتقويتها بالأبعاد السياقية واللّغوية والترابطية من أجل الاقتدار على إيجادها في الفضاءين الخاص والعام. الحلقة الثالثة انتهي- للمقال مراجع