لم تكن أمّي أمّه تعلم وهي تحمله جنيناً في أحشائها عام 1954م بعد ستة أعوام من النكبة، وسقوط فلسطين المدوي في براثن المؤامرة الصهيونية الكبرى لإقامة وطن قومي لليهود فيها، واحتلال القدس بما تشكل من عقيدة إسلامية راسخة، حيث قبلة المسلمين الأولى ومسرى رسولنا محمد ومعراجه الى السماء، بعد جولة صراع سابقة ودامية مع الحملات الصليبية والاستعمارية قادها القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي، وتوجت بمعركة حطين المجيدة وتحرير القدس، وتشييد منبره في رحاب أقصاها الشريف ليكون صوتا للإسلام والمسلمين فيها، أنّ وليدها الذي أسمته وأبي بيوسف سيصعد هذا المنبر، ويتبوأ خطابته ليكون خطيب قبلة المسلمين الأولى وأرض الإسراء والمعراج أو كما أطلق عليه أخي وصديقي د - أحمد يوسف "إمام أولى القبلتين وثالث الحرمين" كعنوان لمقاله عن الشهيد بطلب مني لكتاب أعده عن سيرة ومسيرة شهيدنا الكبير الراحل. وكذلك لم يكن يعلم أبي طيب الله ثراه وغفر له بما ربانا، وقدم لنا الرجل الأمي العاشق للعلم والتعلم، والعصامي الحازم الصارم والقوي الشكيمة عزيز النفس وهو ينشئ ابنه الوليد والبكر من زوجته الثانية، ويودعه في سن مبكرة كتاتيب مخيم المغازي الذي هاجر له أسوة بالسواد الأعظم من شعبه المهجر بفعل آلة الإرهاب الصهيونية، ويعزز صفاته هذه في عقل وقلب صغيره يوسف، حاثاً إياه على العلم والدين طامحا أن يعوضه الله به عما فاته من مسار العلم، أن صغيره سيكبر ويحمل صفاته، ويحقق رغباته وطموحاته ليصبح شيخا عالماً مهيباً مشهوداً يشار له بالبنان ليس في منطقته فحسب بل في سائر قطاع غزة بل وفي فلسطين بأسرها، بل وفي العالم الإسلامي والعالم عموماً، ويتبوأ رأس المؤسسة الدينية في فلسطين وزيرا لأوقافها وشيخها لأزهرها وخطيبا لأقصاها وأحد أبرز علمائها. وما بين الميلاد والشهادة الختام رحلة ومسيرة عمرها سبعة عقود...تصلح عنواناً لقصة نجاح ريادية عصامية لأيقونة وطن بنكهة مقدسية شكّل فيها أخي الشهيد نموذجاً يحتذى لعائلته ومحيطه، لشعبه ووطنه ولكل من عاشره وخالطه، وتعامل معه من الأنام في داخل الوطن وخارجه، وصنع نبراسا يهتدي به الحالمون بمستقبل زاهر لأنفسهم ولشعوبهم ولأمتهم، مسيرة تخللها محطات مفصلية وأخرى نمطية تتفاوت بين الخاص والعام وبين الآلام والآمال، لعل أبرزها: جامع المغازي الكبير كان اللّبنة الأولى في مسار حياتك الدينية والعامة، وأنت العصامي الذي أصبحت إماما وخطيبا له وأنت ابن العشرين عاما في وجود شيخك وأستاذك العالم وبدعمه واحتضانه لك، وكان نقطة الانطلاق لعملك الديني المشهود في قطاع غزة والوطن عموما، واكبت مسيرة هذا الجامع منذ كان منشأة للاحتلال البريطاني، وأشرفت على إدارته وشؤونه وحولته إلى جامع فسيح بإمكانيات متواضعة قبل أن تتولى جمع التبرعات لتشييده من الباطون المسلح ليصبح لوحة فنية والمعلم الأشهر في مخيم المغازي، ولتكمل ذلك أثناء وجودك على رأس وزارة الأوقاف بتوسعة واجهته وكسوته بالحجر القدسي، وجعلت من هذا الجامع مؤسسة دينية دعوية وإغاثية وثقافية وتعليمية متكاملة، فأسّست لجنة زكاة المغازي وكنت رئيسها تمد يد المساعدة والعون للمعوزين من العائلات المتعفّفة، ونظمت حلقات القرآن وحفظه وتجويده وتفسيره، وكذلك دروس الارشاد والتوعية الإسلامية واستقدام أبرز العلماء للمحاضرة فيه، وكانت في عهدك الدروس التعليمية للمراحل الدراسية المختلفة، وكذلك الدورات المهنية للنساء ليكن منتجات في بيوتهن ويعتمدن على ذواتهن ويعيلن أسرهن، واستمرّت مسيرتك على رأس هذا الجامع الكبير نحو أربعة عقود قبل الانقسام البغيض، وما صاحبه من فتن وكف يدك عن إدارة الجامع والاشراف عليه بشكل جارح حتى استشهادك، وأنت الذي آليت الصمت ووأد الفتنة شعورا بالمسؤولية الدينية والوطنية، ولعل إطلاق اسمك على هذا الجامع ليصبح جامع الشهيد الشيخ د - يوسف جمعة سلامة أقل تكريم لمسيرتك في هذا الجامع وغيره، وردّ اعتبار لما حدث سيما بعد نهر الدماء الزكية لآلاف الشهداء من شعبنا، الذي لا يزال ينزف ويشكو الى الله ظلم الاحتلال وطغيانه. معهد الأزهر الديني محطة انطلق بها أخي الشهيد من إطار المحلية الى الاطار الوطني الواسع، فانتقل من عمله كأستاذ في سلك التربية والتعليم بعد استقالته الى المعهد الديني الأزهر بغزة، حيث كان عميده آنذاك المرحوم الشيخ محمد عواد، الذي ربطته بالشهيد علاقات شخصية ومهنية وثيقة، وأتذكّر طفلا زياراته العديدة لبيتنا، ليتبوأ الشهيد منصب مدير العلاقات العامة في الأزهر، والذي حوله بشهادة الجميع الى شعلة نشاط وحيوية من حيث إحياء المناسبات الدينية والوطنية وإصدار مجلة الأزهر، حيث كان مدير تحريرها والمشرف عليها ومد جسور التعاون الكبير مع الأزهر بمصر والعالم الإسلامي ومع القدس والضفة الغربية والداخل المحتل، الى جانب جمعيات تحفيظ القرآن الكريم والوعظ والإرشاد الديني الذي أصبح لاحقا مديرا له، واستمر شهيدنا الكبير في مؤسسة المعهد الديني يتنقل فيها من نجاح لنجاح، حيث كنت أسمع وصف العاملين فيه وغيرهم له بدينمو المعهد حتى قدوم السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994م لينتقل بعدها للعمل بوزارة الأوقاف الوليدة كوكيل وزارة مساعد ومسؤول الأوقاف في قطاع غزة. وبعد الانتخابات التشريعية الثانية عام 2006، وتشكيل حكومة جديدة غادر شهيدنا منصبه في وزارة الأوقاف متفرغا لبيته وأهله، ويبدأ مرحلة علمية جديدة من البحث العلمي والتأليف، حتى فاجأه مجلس أمناء معهد الأزهر بعرض تسلمه موقع عميد وشيخ الأزهر ليقبل الشهيد هذا الموقع الجديد "شيخ الأزهر وعميد المعاهد الأزهرية بفلسطين" على رأس المؤسسة الدينية الأقدم والأعرق في فلسطين باعتباره ابن المؤسسة تاريخيا، وأحد أركانها ليصبح المعهد معهدا وطنيا امتد من غزة الى الضفة ويرد الاعتبار لموظفيه وحقوقهم، ويخلق منه خلال فترة وجيزة وزارة أوقاف ثانية بهيكلية معتبرة، وبدأت معها انطلاقة جديدة للمعهد قبل أن تتوقف ومغادرة الشهيد الموقع بفعل دسائس أعداء النجاح، ومعه غادر واستقال مجلس أمناء المعهد، وبمغادرته خسر المعهد وأسرته شيخه الباني. وزارة الأوقاف كانت هذه المحطة الأهم والأطول في حياته رحمه الله، واقترن اسمه بها إذ أنه لم يكن وكيلاً ومن ثم وزيرا عابرا فيها كما هو حال العديد من الوزراء بل هو الوزير المؤسس لها، أنشأها من الصفر ووضع هيكليتها الكاملة الدعوية والإدارية والتعليمية والحج والعمرة والزكاة واستثمار الأوقاف والعلاقات العامة والدولية، وخلق منها وزارة مركزية في الحكومة الفلسطينية ومؤسسات السلطة الوطنية، ووسع نشاطها أفقيا وعموديا ووظف فيها جيشا من العاملين يمثل النسيج الاجتماعي الفلسطيني سيما الفقراء، وعزز ذلك بدور اغاثي من خلال لجان الزكاة المنتشرة في مختلف قرى ومدن ومخيمات محافظات الوطن، وتخرج المئات من طلبة العلم الشرعي من مدارسها الشرعية وكليات الدعوة الإسلامية فيها، ولأول مرة يصدر في عهده مصحف بيت المقدس ليكون أول مصحف بطبعة فلسطينية في أرض الأسراء والمعراج، ويجلب لفلسطين حصة حجاج أضعاف مضاعفة مما حددته السعودية لحجاج العالم الإسلامي، وفقا لتفاهماتها مع منظمة التعاون الإسلامي في ظروف ميسرة ومريحة. وتشهد له محافظات الوطن بالمشاريع التجارية الاستثمارية للأوقاف أراض وعقارات لتنمية مال الوقف المستقل عن الموازنة العامة ليعود ربعه علي خدمة المجتمع والوطن، وفي عهده كانت تنظم مسابقات حفظ القران الكريم المحلية والدولية، وتأسيسه لإذاعة القرآن الكريم، علاوةً على ذلك وضع فلسطين الدينية على جغرافية العالم العربي والإسلامي والدولي، وأصبح لها حضورا مميزا من خلال علاقات ممتدة نسجها مع وزارات الأوقاف والمرجعيات الدينية في مختلف الدول، ولا ننسى علاقاته مع الأخوة المسيحيين شركاء الوطن والهم، وبثه روح المودة والتسامح والعيش المشترك على القاعدة القرآنية " لكم دينكم ولي دين". خطيب أولى القبلتين وثالث الحرمين اعتلاء أخي الشهيد منبر القائد صلاح الدين الأيوبي في المسجد الأقصى المبارك خطيبا للمسلمين والأمة كانت ذروة محطاته وأكثرها تقدما، ولعلها الأهم والأبرز في مسيرته، ولعلها تحقيقا لنبوءته التي صارحني بها عند اصطحابه لي طفلا في ختام مرحلتي الابتدائية عندما قال لي عندما تكبر ستحضر لتصلي الجمعة في الأقصى، وأكون أنا خطيبه بإذن الله، فنال هذا الشرف عن استحقاق واقتدار، وهو العالم المتمكن والخطيب المفوه والصبور الجلد في حقل الدعوة والعمل العام. ويشهد له الجميع أنه وظف خطبه النارية للدفاع عن الأقصى، والذوذ عن حياضه والتصدي لتهويده والمؤامرات عليه، ومعالجة قضايا المسلمين والأمة وفي مقدمتها قضيتنا فلسطين، وأصدر دليل الأقصى ليكون مرجعا للمسلمين داخل فلسطين وخارجها للتشبث بمسجدهم الثالث وقبلتهم الأولى، ومعرفة تاريخه وأركانه واقسامه وكل مصطبة فيه، ولم يكن يعلم أخي رحمه الله أن هذه المحطة الأبرز والأرفع في حياته ستكون سببا لنهايته شهيدا حيث أعلن العدو الصهيوني عند اغتياله أنه قد تم تصفية الشيخ يوسف سلامة المحرض الأول في القدس والمسجد الأقصى، باثاً خطبة مؤثرة له في المسجد الأقصى، فاستحق أجمل النهايات وأمسك الختامات ليصبح عن جدارة شهيد القدس وشهيد الأقصى والمسرى، ويقع الفراق بينهما والذي لم يتمناه أبدا، فيبكي منبر صلاح الدين خطيبه الفارس. الجزائر بلد المليون ونصف المليون شهيد...بلد هواري بومدين (الموستاش) صاحب مقولة نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة وأحمد بن بلة، بلد ابن باديس والبشير الابراهيمي وجمعية علماء المسلمين الجزائريين، بلد الشهداء العظام العربي بن مهيدي وديدوش مراد والعقيد عميروش، وغيرهم الكثير، البلد الذي يتقاطع مزاجه مع فلسطين ثورةً ونزقاً، كنت أول من وصلها من عائلتي منفردا، وتخرجت منها بترتيب الأول علىجامعة الجزائر العاصمة والجمهورية الجزائرية عموما بفضل من الله ورضا الوالدين، اصطحبت ابن اخي الشهيد إياد للدراسة فيها بعد مكالمة هاتفية تلقّيتها من أخي الشهيد رحمه الله، بيد أن ابنه آثر أن يكمل دراسته بغزة بعد قيام السلطة الوطنية ليكون نصيبه القدري منها التعارف والزواج من فتاة جزائرية، وكان الشهيد شغوفا بالعلم فطلب مني تفحص إمكانية اكماله دراساته العليا بالجزائر، وهو ما أنجزته له سريعا وبمنحة مع المعهد العالي لأصول الدين بجامعة الجزائر، وبتنسيق مع وزير التعليم العالي آنذاك د - مصطفي الشريف الذي ربطتني به علاقة طيبة بعد تفوقي الدراسي، وقد تخرج أخي منها ونال درجة الماجستير بتفوق وكانت رسالته بعنوان "الوقف الاسلامي في فلسطين"، وقد التقيت الوزير الشريف مؤخرا قبل سنوات في العاصمة القطرية الدوحة على هامش مؤتمر دولي لحوار الأديان واستعدنا الذكريات وعلاقته الممتدة مع أخي الشهيد، والتي امتدت أيضاً الى جمعية العلماء المسلمين بالجزائر حتى أصبح أحد كتاب مجلتها البصائر، واليوم أحفاد أخي الشهيد الخمسة يحملون الجنسية الجزائرية بعد تعديل تشريعات الجنسية العربية لتمنح الأم جنسيتها لأبنائها أسوة بالأب، وأصبح لنا في الجزائر ذكريات ونسباً ومصاهرة. العائلة كنت الشخصية الأبرز في عائلتنا الكبيرة في الداخل والخارج، وكبير العائلة وعميدها، وكنت مظلة للجميع تجامل وتود الجميع في الأفراح والأتراح، وكنت امتدادنا في النسيج الاجتماعي الوطني الواسع بكل مكوناته، وعلى مستوى عائلتنا الصغيرة كنت لنا أبا في غياب الوالد والقاسم المشترك بين الجميع رغم نزقك الصارخ، وكنت باراً بوالديك أيما بر، وعلى مستوى العلاقة الثنائية بيننا كنا نتشاكس حينا في المواقف وتتباين وجهات النظر بيننا حينا آخر في الرؤى والأفكار، وكما كنت تردّد دائما بدعابة "أنا مدرسة وأخي جميل مدرسة أخرى"، وأرد عليك بذات الروح "البطن بستان"، وهذه سنه طبيعية لله في خلقه "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم"، ولكن الحب العميق كان سيد الموقف والاحترام تاجه، وكنت تحفظ الود وتصون الأخوة والدم، وتسدد وتقارب بحكمتك المعهودة، وكنا إلى جانب بعضنا البعض سندا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا في كل مواقف السراء والضراء، سيما في مواطن المفاصلة أو كسر العظم كما يقولون، وبغيابك المفاجئ والمؤلم تركت لنا فراغا وفقدنا جدارا نجتهد اليوم بكد أن نعوضه ما استطعنا الى ذلك سبيلا رغم ثقل المسؤولية وفداحة الخسارة. العصامية أهم خصائص شخصية أخي العصامية بامتياز، فلم يولد سليلا لعائلة ثرية ومتنفذة، وإنما خرج للحياة لأبوين أميين ومستوري الحال أسوة بالسواد الأعظم من جيله آنذاك، بيد أنه منذ نعومة أظفاره تفتحت مواهبه وطموحاته وجديته، حدّد أهدافه الخاصة والعامة وقرّر أدواته، فاتخذ العلم وتحديدا الشرعي وسيلة والقرآن نبراساً ومحبة الناس محيطاً، وكأنّي به يطبق مقولة الأمام علي كرّم الله وجه "من أراد منكم الدنيا فعليه بالعلم ومن أراد منكم الأخرة فعليه بالعلم ومن أرادهما كلاهما فعليه بالعلم"، وحفظ القرآن الكريم في وقت مبكر وكان ينهل من أي كتاب ووسيلة تعليمية تقع بين يديه، تخرج من معهد المعلمين بغزة بدبلوم ليلتحق بعدها في التدريس كمعلم، وأذكره طفلا يكابد السفر بين المغازي والعريش بكل جلد وصبر ليستقر به الحال في مدرسة قريبة في قرية المصدر جنوب المغازي، بيد أن طموحه لم ينته هنا بل أكمل دراسته الجامعية في كلية أصول الدين ثم الماجستير ثم الدكتوراة ثم قفز للعمل أستاذا في جامعة الأزهر قسم الدراسات العليا، وهذه الرحلة لم تخل من واجباته الأسرية والعائلية، إذ أنه شملنا بعنايته ورعايته الى جانب والدينا رحمهما الله، وكذلك من علاقاته الاجتماعية الواسعة مع الجيران والعائلات المختلفة والنخب السياسية والثقافية والاقتصادية...وغيرها، الى جانب عمله المهني والتزاماته في معهد الأزهر وجامعته ووزارة الأوقاف وجمعية دار البر للأعمال الخيرية ومسجد المغازي الكبير ومأذونا شرعيا...وغيرها الكثير، وحيثما حلّ وارتحل كان له أثر صارخ، وأصبح شخصية عامة ومشهورة في كل أنحاء فلسطين، وامتدت هذه السيرة الحسنة إلى خارجها حتى تربع على عرش المجد والشرف بكده وصبره واجتهاده كشخصية عامة متفردة، وكان عصامياً فذّاً باستحقاق واقتدار يشهد به الجميع، شاقاً طريقه وسط أشواك متنوعة اجتماعية وسياسية وبيئية، وصنع لنفسه مكانا مرموقاً تحت الشمس. الحضور والإصلاح الاجتماعي يعتبر شهيدنا رجلاً اجتماعياً من الطراز الأول بشهادة كل من عرفه وعامله، فهو مألوف العشرة، لين الجانب، سلس التعامل، شعبي الطابع، وهو ما أهله لمد جسور التواصل مع المجتمع الفلسطيني العريق بكل عائلاته وعشائره وقبائله، وفي كافة أماكن تواجدهم في القرى والمخيمات والبلدات والمدن، ومن مختلف المنابت والأصول والطبقات الاجتماعية...، يزورهم ويودهم ويجاملهم في مناسباتهم المختلفة أتراحا وأفراحا، وكريما مع ضيوفه وعند تشييد بيته كان حريصا على أن تكون مضافته الأوسع والأفسح في بيته لاستقبال الناس والضيوف من أبناء شعبه. وإذا تحدثنا عن مناقبه الاجتماعية، فلا يمكن إغفال دوره البارز في الإصلاح الاجتماعي والتوفيق ذات البين من المتخاصمين من الأفراد والأسر والعائلات، ويشهد له المخاتير ووجهاء العائلات ورجال الإصلاح بأنه كان دائما في صدارة مجالس الإصلاح، وحل الخلافات العائلية والعشائرية وإلقاء الكلمات والخطب التي تدعو الى التسامح والعفو والوحدة الاجتماعية والوطنية حفاظا علي النسيج الاجتماعي ولحمته، ونحن جميعا تحت نير الاحتلال وظلمه وجبروته، وفي مجلسه ذات مرة وبحضوري عاتبه أحدهم على إهدار وقته في الصلح الاجتماعي على حساب أولويات أخرى، فأجابه بإفحام بالحديث الشريف "ألا أدلّكم على عمل أفضل من الصلاة والصوم والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين"، وأردفه بحديث آخر"إن لله خلقا خلقهم لحوائج الناس، يفزع الناس إليهم في حوائجهم، أولئك الأمنون من عذاب الله". فهذا الحصاد من الخير يا أخي أغبطك عليه، وهو نور يضيء قبرك وكتابك عند مليك مقتدر. تنوّع المواهب والعطاء تميّز شهيدنا بخصائص وخصال شخصية متعدّدة، منها الذكاء والفطنة والفراسة وسرعة البديهة والألفة الاجتماعية، الى جانب حب العلم والشغف به والطموح بلا حدود، وهذه الصفات مجتمعة خلقت منه شخصية متميزة ومتفردة متنوعة المواهب، مكنته من الجمع بين الشيخ والعالم الشرعي والخطيب المفوه في المساجد ومنابر العلم والمؤتمرات والمهرجانات ومجالس الإصلاح الاجتماعي، والاكاديمي والأستاذ الجامعي في جامعة الأزهر وتدريسه العلوم الشرعية لطلبة الدراسات العليا حتى أصبح رئيسا مكلفا لمجلس أمناء الجامعة، وإداريا محترفا في تأسيس المؤسسات وادارتها وهيكليتها وقيادتها، تشهد له تجربته الساطعة في وزارة الأوقاف وفي معهد الأزهر الديني وجامعة الأزهر وتجربته في العمل الأهلي والخيري من خلال جمعية دار البر للأعمال الخيرية بغزة...وغيرها، ولا ننسى نهمه البحثي وإصداره العديد من المؤلفات والأبحاث المحكمة والكتب أبرزها دليل المسجد الأقصى المبارك، وإسلامية فلسطين، البعد الإسلامي للقضية الفلسطينية، مكانة فلسطين في الكتاب والسنة…إلخ، وبموازاة ذلك كان رجل علاقات عامة فريداً شبك علاقات واسعة في المحيط الوطني مع كل مكونات شعبنا ومؤسساته أهلته ليكون رجل وفاق ووحدة وطنية لينتخب نائبا أولا لرئيس الهيئة الإسلامية العليا في القدس الشريف، ولم يقتصر الامر في الفضاء الوطني بل امتد الى المحيط الخارجي ليتفرّد بمد جسور التواصل والعلاقات الشخصية والمهنية والوطنية مع الكثير من دول العالم، علاقات ممتدة عادت بالخير على شعبنا ووطننا، الى جانب العمل والحضور الإعلامي الذي أولاه أهمية لتوصيل رسالته للناس من خلال الكثير من المقالات والمقابلات والتحقيقات الصحفية، وإصدار المجلات واعداد البرامج الاذاعية والتلفازية، فكان رحمه الله استثنائيا ورجل دولة بامتياز وبكل معني الكلمة. ^^^^ هذه المحطّات قبسات يا أخي من سيرتك العطرة ومسيرتك المشرفة المكللة بالنجاح والتميز والابداع، مسيرة ملؤها الإخلاص والنشاط لدينك وشعبك الذي أحببته وأحبك، ولوطنك الذي يشهد ترابه أنك ملأته ضجيجا من العطاء حيثما ارتحلت وحللت، وهو ما غبطه عليك الكثير الكثير من المريدين والمخلصين، وأنكره عليك نفر قليل من الحاسدين الموتورين الذين سعوا فاشلين لعرقلة مسيرتك الصاعدة، والوقوف في وجه همتك العالية وصدق الشاعر: وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في حملها الأجساد ولكننا نطمئن الفريقين أنّ أبا أياد الحبيب سيبقى حاضرا بيننا وبين شعبه وفي فضاء وطنه، وأن شمسه لن تغيب ولن يتوقف نبض قلبه وحديث لسانه، ولن يجف قلمه ولن تخفض رايته، ولن يتوارى حضوره من خلال مؤسسة تحمل اسمه وتخلد ذكراه، وتحفظ ذاكرته وتفيض بتراثه العزيز في فلسطين وخارجها صدقة جارية عن روحه وعلم ينتفع به للأجيال، أمانة في أعناقنا ونقسم على حملها ليبقى المشعل متقدا. ألا تعلم يا أبا اياد أن بيتي بيتك، الذي يمثل شقاء العمر لأزيد من ثلاثين عاما، والذي كان وسيبقى بمثابة بيت العائلة الكبير قد دُمّر عن بكرة أبيه بعد أن احتضن بيت عزائك الاستثنائي لتصبح الخيمة بيت أخيك الجديد، وقد امتد الدمار لبيوت أبناء عمك، وأنه قد لحق بك في الشهادة الغوالي ابن أختك عبد الرحمن سالم وابنته، وابن عمك خضر وزوجته وابنه محمد، والأنباء بتضاربها تشي باستشهاد ابن عمك د - سالم أيضا، وتحول قطاع غزة من شماله الى جنوبه لبيت عزاء كبير تنزف بيوته وأركانه دماً ودماراً على يد مغول وتتار العصر. أخيرا...أبكيك يا أخي الحبيب بكاء مرا...فعلى مثلك يا أخي تبكي البواكي، نحن لم نفقد رجلا أو أخا عاديا، لقد كنت أخا بقبيلة وقامة بأمة، ولا نردد إلا ما قال رسولنا المعلم عليه الصلاة والسلام في مثل هذا الموقف "أن العين لتدمع وأن القلب ليحزن وأنّ على فراقك يا أخي يوسف لمحزونون"، ونسلم بقضاء الله وقدره "ويتخذ منكم شهداء"، ولا نقول الا ما يرضي ربنا "إنّا لله وإنّا اليه راجعون". تربح البيع يا أبا اياد، وأسال الله أن يتقبلك وزوجتك المربية الفاضلة وأمي الثانية "أم أياد" شريكتك في الحياة والشهادة في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا، وأن نلتقي معا في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وأن تكون لنا شفيعا مشفعا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.