الوقائع التاريخية التي تداهم المجتمعات تستغرق منك وقتا حتى تفهم كل أبعادها وتَأخذ عنها صورة مُتكاملة وذلك لا يتمُ دون وجود ذخيرة من المعلومات التي تتراكم على مرّ الأيام إذ هي تُعينك لإدراك خلفيات الحدث وتفاصيله الدقيقة، لكن بما أن فن الرواية لايستندُ على ما هو مُتوفر في الواقع فحسب، بل يعمتد على المزج بين عُنصر الخيال والمادة التاريخية في آن واحد، لذا قد يسبقُ الروائي غيره من المُشتغلين بمجال التاريخ في تدوين شهادته حول ما يعيشه ويواكبه من التطورات يكفيه ما يترشح من الأخبار ليبدأَ ببناء عالمه الروائي، إذ يهتمُ بما هو أكثر دراميةً من الأحداث ومن ثُم ينداح خياله لصياغة إطار تتكامل داخله مكونات العمل السردي. وهذا الأجراء هو ما يلتزم به الكاتب الجزائري المقيم بفرنسا محمد مولسهول (ياسمين الخضرا) في رواياته إذ هو يرافقُ التحولات مُراقباً لحظات فارقة في المَشْهَد. يعالج الكاتب في عمله الذي يحْمِلُ عنوانا ناضحاً بالشعرية (سنونوات كابول) مُشكلة التطرف الديني وتدورُ أحداث الرواية في مدينة كابول بوصفها مركزاً لجماعة مُتطرفة في الحقبة التي تبسط فيها حركة الطالبان سلطتها على أفغانستان، يُصور الكاتبُ ما يُكابده الإنسان من المعاناة في ظلّ هذه الجماعة المُتَطرفة وما ينتظرُ النساء من مصائر سوداوية إذ يفقدنَ هويتهُنَّ وراء الشادور من هنا تأتي دلالة العنوان إذ النساء يتحولنَ إلى كائنات أشبه بطائر السنونو وهن يتدثرنَ النقاب. لا يوجد ما يميز إمرأة من غيرها من النساء فضاءات مُختنقة تفتتحُ الرواية بما يمكن تسميته مدخلاً يُحضرُ ذهن القارىء للإنفتاح على أجواء الرواية إذ يقدم المؤلف صورة خاطفة لتضاريس المدينة وموقعها الجغرافي، ومن ثّمَ يبدأُ القسمُ الأول من عمله بالحديث عن السجانْ عتيق شوكت فالأخيرُ يحرسُ مبنى السجن الذي كل من يدخله لايغادره إلا إلى المقصلة أو الترجيم، حيثُ تتوالى مشاهد نقل الإمراءة المنعوتة بالفاجرة من السجن إلى الملعب الذي يغضُ بحشد من المتفرجين، ناهيك عن تكديس الحجارة ليرجم بها الجمهورُ المُذنبةَ، هنا يتبنى الكاتبُ أسلوباً سرديا شفافاً متسارع الإيقاع بحيث تكون المساحة مقسمةً بين الإهتمام بهواجس الشخصيات وتخيلاتها وبما يدورُ على مسرح الأحداث، إذ يكون الراوي مُتماهياً مع شخصية محسن الرمات عارضاً ما يتذكره الأخير حول أفغانستان قبل دخول السوفيات وما إنتهت إليه أوضاع البلد في عهد الطالبان، كما يرسمُ النزاع النفسي الذي يعاني منها محسن الرمات إثر تلقيه الدعوة لحضور حفلة الإحتفاء بترجيم المرأة المسجونة. وتعزز تدخلات السارد الإحساس بالمناخ السائد لدى القارىء إذ يصفُ الراوي العليمُ أفغانسانَ بأنها أصبحت غرفة الإنتظار إلى الآخرة. لذلك تجدُ حالة الإختناق تخيمُ على كل الأمكنة دون أن يكون هناك فرق بين المكان المُغلق مثل البيت أو السجن أو الأمكنة المنفتحة كالأسواق والمقاهي، إذ يكون البحثُ عن الهدوء النفسي والهروب عن المظاهر التي تبعث على القرف هو ماتشغلُ شخصيتين أساسيتين في الرواية. أطوار الشخصيات هناك أربع شخصيات أساسية تأخذ كل واحدة منها بإهتمام القارىء ويتابع من خلالها تنامي الأحداث في الرواية، تتميّز هذه الشخصيات بتمردها على قوالب جامدة أي تمرُ بأدوار وحالات متباينة لذلك تُدرج في صفّ الشخصيات المدورة أو النامية من هنا تختلف صورة عتيق شوكت السجّان في نهاية الرواية عن الشخصية التي يتعرفُ عليها المتلقي في مستهل العمل، في الحالة الأولى تظهرُ غليظ القلب فظاً كما أنَّ مرض زوجته يزيدهُ تجهماً بحيثُ لا يهدأ روعه حتى داخل أماكن العبادة، إذ يلجأُ إلى مبنى السجنِ آخذا بكرباجه، لكن على الرغم من وجود هذه الشراسة في شخصية عتيق، فهو لا يستمعُ إلى نصيحة صديقه ميرزا شاه بالتخلي عن زوجته المريضة، بل يتذكر ما عملته من أجله عندما أصيبَ في الحرب مع السوفيات إذ تركه رفاقه فمسرة هي التي قد تكفلت بمداواته من الجُرح هذا الجانب يكشفُ تركيبة شوكت وعدم خلوه من الميول الإنسانية بعكس صديقه الذي ما إنتهت الحرب حتى إنصرف إلى التجارة، بجانب شخصية شوكت يُزيدُ محسن الرمات التوتر الدرامي في بناء النصّ حدة وذلك بقلقه ونفوره من الواقع القائم. فهو درس علوم السياسة آملا بأن يُصبح دبلوماسياً كما تخرجت زوجته زنيرة من القانون غير أن ظهور الطالبان قد أجهز على الأمنيات فيعيش الزوجان في كوخ متهالك، يؤنب محسن نفسه عندما يشارك في حفلة رجم المذنبة برمي حجارة تشقّ رأس الأخيرة، كما لا تصدق زنيرة بأن زوجها قد بدر منه هذا التصرف، فالأمرُ يزدادُ سوءًا عندما يبدي محسن رغبته بإستعادة جانب من حياتهما الطبيعية إذ يقترحُ ان ترافقه زوجته في النزهة لكن في الطريق يرغمُه عناصرُ الطالبان على الإستماع إلى محاضرة ملا بشير ويتم توقيف زنيرة في القيظ ريثما تنتهي الخطبة النارية ضد الغرب ما يتلقاه الإثنان من تعامل قاس وإهانة جارحة يكون بداية للشرخ في العلاقة بين الزوجين. وينتهي الأمر بموت محسن وتُحْمِل زنيرة جرم قتله، لذلك تقادُ إلى السجن. حبكات مؤجلة يبدو للوهلة الأولى لمن يقرأُ هذه الرواية بأنها مجرد عرض لمجموعة من مشاهد وصور لمدينة واقعة تحت حطام ما بعد الحرب، فأحاديث الناس كلها عن الحرب، كما الأطفال يقلدون الكبار يلعبون لعبة نصب المشانق ويرجمون الكلاب السائبة غير أن أقساما أخيرة من العمل ينتظمُ فيها بناء الحبكة وترفدُ قصة أخرى بنية الرواية إذ يتعرف عتيقُ على السجينة الجديدة زنيرة ويهيمُ فيها حباً بحيث ينسى مُحيطه ويُصبحُ هدفه إنقاذ زنيرة من حفلة الرجم. تزوره زوجته مسرة في السجن بساعات قبل تنفيذ بدء عملية الترجيم وتكشف لعتيق رغبتها بأن تحل محل زنيرة لأنها مريضة وأيامها معدودة وتخطابه بلغة تنم عن حسّ المتصوفة ومن أدرك حالات الوجد والعرفان ناصحة إياه بالإستماع إلى صوت قلبه، لأنه الوحيد الذي يمتلِكُ حقيقة الحقة على حدّ تعبيرها، كما أبانت له بأن الأمر لا يفرق بالنسبة لجماعة الطالبان فهم لا يعرفون هوية السجينة طالما مُغطاة بشادور،فالسجّان لا يعملُ غير استبدال شادور بشادور آخر وفي ذلك إيحاء سوء أحوال المرأة ضياع هويتها، تُرجم إمرأة عتيق دون أن ينعم السجّان بفردوس الحب إذ يفقد أثر زنيرة ويتحول إلى شخص مهلوس ينزع نقاب كل إمرأة يصادفها بحثاً عن وجه حبيبته ما يُغيظ الحشود إذ ما انفك ينهالون عليه ضربا حتى يموت. يتسمُ أسلوب صاحب (الصدمة) بالمرونة في السرد وسرعة الإنتقال من قسم إلى آخر والإعتماد على تقنية حذف غير المباشر. كما يذكرُ لحظات كثيفة في ماضي الشخصيات متجنبا التفاصيل زيادة على ذلك إنَّ هناك ثيمات متعددة في مضمون هذا العمل . التمزق النفسي، طمس الخصوصيات، ضياع الحب، التدين الشكلي. يقاربُ ياسمين الخضرا في (سنونوات كابول) إشكالية أخرى من إشكاليات العالم المُعاصر وهي التطرف الديني في سياق السرد الروائي.