بن علي لونيس / جامعة بجاية لا أنوي أن أخوض في مسألة التعصّب الديني من باب السياسة أو علم الاجتماع، بل أجدني بحكم التخصّص أبحث عن موقف الأدب منه، وتحديدا نظرة الرواية إلى الفكر الأصولي، وإلى العقائد الدوغمائية. ستكون الرواية الجزائرية المعاصرة موضوعا مهما لمقاربة الظاهرة في بعدها الروائي، أي معرفة كيف نظر الروائي الجزائري إلى العنف الذي تصنعه الحركات الأصولية، من منطلق أنّه ينتمي إلى سياق تاريخي خاص جدا، تمثّل في الأزمة الأمنية التي عصفت بالجزائر في تسعينيات القرن الماضي، وهو في نظري الأقرب إلى إدراك أبعاد العنف العقائدي لأنّه عاشه من الداخل، كتجربة حقيقية قبل أن يدركه كموضوع نظري يتلقفه من الكتب النظرية. حين يكون الفن في مواجهة آلة التعصّب مازال السؤال يطرح نفسه: ما الذي يُبرّر فعل الكتابة؟ ما الذي يجعل الإنسان يلجأ إلى الفنّ؟ هل لأنّ في الكتابة والفن ما يسمو على الحياة؟ لستُ متأكّدا من الإجابة، ربّما ما يعنيني هو تحديدا موقف المبدعين والفنانين من هذا الجدل: (الحياة / الفن )، لأنّهم الأقرب بحكم التجربة والخبرة والمعايشة إلى الإمساك بالخيوط الرفيعة لهذه العلاقة. كتب ( يونس مارينا ) بطل رواية ( أصابع لوليتا ) للأعرج واسيني: (( أفكّر أحيانا إذا لم تكن الكتابة عبثا مجنونا؟ مقتنع تماما بأنّ حياة الإنسان أجمل من أيّ نص في الدنيا نكتبه أو يكتبنا، لا يهمّ. المحافظة على الحياة بسموّ هي نضال شاق أيضا.)) ( أصابع لوليتا/ ص 19 ). إنّه يمنحنا نظرته إلى هذه العلاقة، مع امتياز خاص منحه للحياة لأنّها أسمى من الفن ومن الكتابة، ولذا فإنّ من واجب المبدع و الكاتب أن يحرصا حرصا شديدا على المحافظة على الحياة. الحياة بهذا المعنى هي مصدر الإبداع، ولا نتصوّر رواية عميقة وجميلة في ذات الوقت ما لم تكن قد أولت اهتماما خاصا بالحياة. الرواية بهذا المعنى هي فن تقديس الحياة لا تتفيهها، والروائي هو هذا الكائن الذي يعرف كيف ينغمس عميقا في الحياة، بحثا عن جوهرها، عن السعادة، وعن الألم، عن الأخلاق، عن الحب والكراهية، هو الذي يستثمر كلّ شيء وهبته له الطبيعة، بما فيه حاسة الشمّ، والرواية قد بدأت بلفظة ( العطر ). لمّا نقرأ الرواية نحاول أن نأخذ دروسا في ثقافة الحياة، نعم! الحياة ثقافة، والحياة فنّ، ولابد من أنّ البعض فقط من ذوي المواهب يعرفون الطريق إلى الحياة. ولذا ليس غريبا أن يكون للروائي أعداءه، وهم في الأغلب أعداء الحياة، أصحاب الفكر الظلامي، سجناء الأصوليات العمياء، التي وباسم عقيدة ما يكفرون بالجمال وبالفن وبالحياة... لمّا كتب ( يونس ما رينا ) روايته ( عرش الشيطان ) كان يتلقى تهديدات بالقتل، وكان خائفا من تلك الكائنات التي تعيش في عالم آخر. إذا كانت الرواية فن الحياة، هل هذا يعني أنّها تقف في الطرف الآخر من العقائد والإيديولوجيات الأخلاقية، ما يجعلها خطابا نافيا لوجودها؟ لم يفهم يونس مارينا لمّا تقدّم إليه شاب ليوقّع له روايته ( عرش الشيطان ) قبل أن يفتح عليه بسؤال مباغت: (( ماذا تجني من معاداة الإسلام ؟ )) السؤال في عنفه الأكيد يضعنا أمام علاقة أخرى بين الفن والعقائد، الفن والأخلاق. وهو طبعا ما صغته من خلال السؤال السابق...هل يمكن أن نلغي في الرواية جوهرها النقدي؟ إذا نحن فعلنا هذا، ألا يمكن لنا أن نقتل الرواية، ونخلق بالموازاة فنا آخر قد يكون صيغة جديدة للفنون الملحمية الماضية التي كانت متصالحة مع العالم، تعبّر عن انسجام الإنسان مع كلّ شيء، مع الله، مع العالم، مع نفسه؟ الرواية هي سليلة المجتمع الديموقراطي، والمجتمع العَلماني الذي يقوم على فكرة فصل السلطات عن بعضها البعض لا إقصاءها أو تناحرها أقصد السلطة الزمنية والسلطة الروحية، ولذا فإنّ هذا الفنّ قد وُجد من أجل لعب هذا الدور في خلق التوازن داخل المجتمع الإنساني، بحيث يتيح الرؤى للجميع. لقد تحدّث ميخائيل باختين عن أنّ فن الرواية هو فنّ حواري، ذو أصول كرنفالية ينفتح على تشعبات الحياة وعلى كلّ ألوانها وأطيافها، وايديولوجياتها ومنظوماتها الأخلاقية والمعرفية وعلى كلّ الطبقات الإجتماعية، وهي كشكل فني جديد تعبّر عن البنية الإجتماعية الجديدة للمجتمعات الحديثة، وعن الإنسان الجديد، المأزوم والإشكالي، الذي يبني وجوده الفاعل على مدى قدرته في خلق المسافات النقدية بينه وبين المنظومات المختلفة في المجتمع..ما حدث لبطل رواية أصابع لوليتا لا يتعلّق بالرواية في ذاتها، بل في سياق الرواية الإجتماعي والتاريخي. فالشاب ذو الأصول التركية قد ترعرع في سياق إجتماعي منغمس في الفكر الأصولي الذي يُنشئ الأفراد على الولاء الأعمى للعقائد، وعلى نبذ كلّ ما يخالف هذه العقائد، أما السياق التاريخي فهو ما يعيشه العالم اليوم من تصدعات عنيفة بين الإسلام والغرب، وما يعانيه المسلمون من سياسات اليمين المتطرف، وغياب سبل التعارف والتواصل والتفاهم على الرغم من الخطابات السياسية التي تتحدث عن التعايش وما شابه ذلك من المفردات التي تلعب دور مهدئات فقط. الشاب لم يقرأ رواية يونس مارينا، كما أنّ الشاب الذي همّ بقتل نجيب محفوظ لم يقرأ رواياته، شأنهما شأن قاتل الطاهر جاووت، وبختي بن عودة، وجيلالي اليابس، وفرج فودة، وغيرهم والقائمة طويلة، كأنّ تاريخ القتل والقتلة يكرّر نفسه باستمرار. فماذا قرأ إذن؟ (( تريد الصراحة، النيّة المبيّتة ضد الإسلام فيها واضحة. لم أقرأ عرش الشيطان، ولكنّي سمعتُ عنها الكثير )) ( الرواية ص: 22 ). يُنبهنا هذا المقطع النصي أنّ الفكر الأصولي لا ينتج إلا الجهل، وهو يُحاكم الثقافة والفن لا على أساس قراءة النصوص والأعمال الفنية، بل على أساس قراءة نوايا الناس، هذا يذكرني بمقولة اشتهر بها الروائي وهي ( حراس النوايا )!! أيّ مقدرة هذه يتمتع بها الأصولي المتعصب بحيث يقدر على قراءة ما في صدور الناس؟ إنّها الأزمنة المُظلمة. ياسمينة خضرا: أوجاع الإنسان في مدينة هجرها الإله تقدّم رواية " سنونوات كابول " للروائي الفرانكفوني " ياسمينة خضرا " ( الاسم الحقيقي هو: محمد بلمسهول ) صورة قاتمة عن المجتمع الأفغاني في ظل حكم حركة طالبان، إذ تبدو لنا مدينة " كابول " مدينة للأشباح مفتوحة على كل ممكنات خراب الإنسان، وأفول الحضارة، إنّها مدينة مفصولة عن " التاريخ "، وعن الوعي الإنساني، وعن كل ما يمت بصلة إلى الحضارة والمدنية. تنفتح الرواية على مشهد أبوكالبتي لمدينة شبه مدمّرة، أتت عليها الحروب، فقضت على كل معالم الحضارة والمدنية، ولم يتبق منها إلاّ أنقاض، وبنايات آيلة على الانهيار، وشبه أزقة تنبعث منها رائحة الخوف والموت. نكاد لا نرى أبعد من تلك الأماكن، بسبب زوابع الغبار التي تحجب النظر، وتزيد جرعة أكبر للدمار النفسي الذي لحق بسكانها، ولما تنقشع الأتربة عن أفق البصر نرى حشودا من الناس يصيحون بأقوى ما فيهم، يرددون اسم الله، ويكبرونه، والمكان ليس أكثر من ملعب قديم، كان فيما مضى مكانا لصناعة الفرجة، ليتحوّل إلى مكان استراتيجي لتنفيذ احكام الإعدام على كل شخص يخالف الشرع، أو بالأحرى يخالف شريعة طالبان. لا ينتظر السارد طويلا، يقحمنا مباشرة في لعبة الخوف، نرى بعيون مترددة مشهد إعدام امرأة بتهمة ارتكاب الزنا، والجماهير من حولها ترغي غضبا، وترمي الفاجرة بالحجارة، لأنّ الجميع كان يتطهّر من آثامه. كأنّ ما نشاهده في خيالنا هو جزء من طقوس بدائية، كانت فيه الشعوب في غابر الأزمان تقدم القرابين لآلهتها حتى تكفّ عنها غضبها، أو تتقرّب إليها. الدم هو ثمن الاقتراب من الله عند هؤلاء. لا يمكن أن نقرأ هذه الصفحات دون أن نعي أنّ الأصولية الدينية قد اُختزلت في فكرة تقديم القرابين إلى إله لا تفهمه هذه الجماعات إلاّ كذات مرعبة، متعطشة إلى الدماء، أمّا البشر فهي كائنات آثمة، والحضارة هي مصدر كلّ تلك الشرور. وتظهر حركة طالبان كنموذج للأصولية التي كانت حليف أمريكا في حربها ضد الكفرة الشيوعيين، لتتقوى لوجستيا وعقائديا وتتحول إلى رمز للجهاد المقدس، وتتحول أفغانستان إلى بوابة الجنة، لكنّ التاريخ يبرز كيف أنّ الايديولوجيات تتحوّل عن مقاصدها، وسرعان ما تتحوّل إلى أدوات لتدمير ذاتها من الداخل، وهذا حينما تكون عدوة للإنسان، وخادمة لمصالح فئة قليلة من المريدين. التعصب الديني هو أشدّ القلاع قوة ومتانة التي إن حاصرت روح الإنسان منعت عنه أشعة الحياة ونورها الحقيقي، تحول بين الإنسان ونفسه، حيث يصعب عليه أن يتعرّف عليها في فرادتها، وفي خصوصياتها، تكون فوق ذلك محرومة من الحلم، مربوطة بقوى خفية إلى زمنية لا تاريخية. كلّ شيء محكوم إلى قوى غيبية، إلى حالات فوق بشرية، فعتيق الشخصية المحورية في الرواية عانى من آلام زوجته التي يراها يوما بعد يوم تتفتت أمام سلطان السرطان، دون أن يقدر على تقديم يد العون؛ فالصلوات لم تكفيه لكي تنجو حبيبته من موتها المحتوم. أليس مرض الزوجة هو في واقع الأمر معادل موضوعي لسرطان الأصوليات التي أوقفت عجلة التاريخ، ووضعت المعارف والعلوم بما فيها علوم الطب ضمن قائمة آفات الحضارة، وهي من علامات خروج العبد من رحمة ربّه؟ الطب الوحيد هو الجلوس أمام أضرحة الأولياء الصالحين، ورفع أكفّ الدعوات الموجعة إلى سماء قاحلة. ستبدو كابول للمرة الألف مدينة ملعونة، هجرها الإله، كما هجرها الإنسان، وهي متروكة لأقدارها المؤلمة. ولكي تخرج من وضعها، فستكون بحاجة إلى معجزة حقيقية، كما هي " زنيرة " زوجة عتيق في حاجة إلى معجزة لتشفى من هذا المرض. سنخلص في الأخير، أنّ رواية سنونوات كابول، كما رواية " أصابع لوليتا " تعاملتا مع الأصولية الدينية كظاهرة كونية لا ترتبط بمجتمع دون آخر، أما خطرها الحقيقي فهو وأد الحياة، ومحاربة باسم الدين كلّ ما يمت بصلة إلى الإنسان في كل أبعاده، وتكريس نظام لا تاريخي يعيد الإنسان إلى قرون غابرة، حتى لا يتحسس وجوده.