مظاهرات 17 أكتوبر 1961 أو ما اصطلح عليه بيوم الهجرة لم تكن وليدة الصدفة، بل كانت تعبيرا صادقا عن مدى الوعي والنضج السياسي الذي وصل إليه الشعب الجزائر إبان الحقبة الاستعمارية. كما أنها كانت بمثابة دفع كبير نحو الاستقلال، بالرغم من التضييق الإعلامي والسياسي وسياسة القمع ضد المهاجرين الجزائريين، هذا ما أكده الباحث في مجال التاريخ بجامعة المدية حميد قريتلي في حديث خص به جريدة»الشعب». الشعب: بداية ماذا تمثل برأيكم مظاهرات 17 أكتوبر 1961؟ الباحث: أعتقد أن مظاهرات 17 أكتوبر 1961 لم تكن وليدة الصدفة، كما يرى الكثير من عموم الناس، بل كانت تعبيرا صادقا عن مدى الوعي والنضج السياسي الذي بلغه الشعب الجزائري في ظل الاستعمار الفرنسي، حيث ورغم التضييق الإعلامي والسياسي وسياسة القمع التي مارستها الآلة الاستعمارية في حق المهاجرين الجزائريين، إلا أن هذه المحطة كانت بحق بمثابة دفع كبير نحو الاستقلال. - ما هي خلفياتها؟ يبدو لي أن الهجرة نحو فرنسا لدى الجزائريين، كانت بغرض تحسين المستوى الاجتماعي والاقتصادي للفرد دون تغييب الأهداف السياسية في مرحلة من المراحل. من الصعب تحديد تاريخ لبداية الهجرة الجزائرية نحو فرنسا وذلك لعدم توفر الوثائق التاريخية، إلا أنه من المرجح أنها بدأت سنة 1874 وتمثلت وقتها في مرافقة المعمرين التجار إلى مدينة مرسيليا. ومن أقوى الأسباب، بحسب رأيي، التي أدت إلى الهجرة، الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي أوجدها الاستعمار الفرنسي والمصالح العسكرية فيما بعد، إذ كانت بدايتها مقيدة إلى غاية 15 جوان 1913 تاريخ صدور قانون يسهل عملية الهجرة، ثم رافق هذا القانون مرسوم بتاريخ 15 جويلية تضمن اتخاذ إجراءات لتسهيل هجرة العمال الجزائريين نحو فرنسا، نظرا لحاجة فرنسا لليد العاملة والجنود مع بداية الحرب العالمية الأولى. كما عرفت الهجرة إلى أرض العدو، تزايدا مستمرا، فمن 4 آلاف سنة 1912 إلى 23 ألفا سنة 1918، ليصل إلى 25 ألفا سنة 1939 والعدد استمر في شكل تصاعدي. - أقطع هذا الإنزال نحو فرنسا الروابط بين الداخل والخارج؟ أرى أن المساهمة النضالية للمهاجرين الجزائريينبفرنسا لم تكن وليدة الثورة الجزائرية، إنما تعود إلى مطلع القرن العشرين، حيث انخرطوا في صفوف المنظمات النقابية الفرنسية للدفاع عن حقوقهم، بدليل ظهور أول حزب سياسي بالتراب الفرنسي سنة 1926 وهو حزب نجم شمال إفريقيا وبعده حزب الشعب الذي أسس في 11 مارس 1937، ولم تتقطع الروابط النضالية بين الداخل والخارج من خلال المكاتب الحزبية الموجودة عبر مختلف المدن الفرنسية. بعد اندلاع الثورة التحريرية في أول نوفمبر 1954، حمل هؤلاء الأشراف على عاتقهم نقل الثورة إلى فرنسا عن طريق «فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا «التي كانت بمثابة الجبهة الثانية للثورة التحريرية، والتي أوكلت لها مهمة نقل إيديولوجية جبهة التحرير الوطني، والتعريف بها لدى الأوساط المهاجرة وإقناعها بضرورة المساهمة في إنجاح الثورة، من خلال كسب تأييد المهاجرين والمتعاطفين مع الثورة دون الدخول في مواجهة مع المناوئين إيديولوجيا. وظهر هذا الخط بشكل واضح مع قيادة «عمر بوداود «ما بين 1957 و1962 والتي استطاعت أن تحرك المهاجرين للقيام بمظاهرات 17 أكتوبر 1961، والتعريف بالقضية الجزائرية على المستويين الفرنسي والدولي، عبر إنشاء منظمات تابعة لها بأوربا، وإنشاء لجان العدل التي تتولى مهمة النظر في قضايا الخلافات بين المهاجرين لمنعهم من اللجوء إلى القضاء الفرنسي. كما اهتمت بتنظيم المسجونين الجزائريين داخل المعتقلات الفرنسية، وبشكل عام اهتمت بتأطير المهاجرين على جميع المستويات. - برأيكم هل هناك أسباب أخرى وراء هذه المظاهرات؟ إن أسباب قيام المظاهرات تعود لتاريخ 05 أكتوبر 1961 أثناء اتخاذ تدابير بمنع حرية تجول المهاجرين الجزائريين، بعد أن طالب مجلس الوزراء الفرنسي من وزير الداخلية إعلان للرأي العام، بيانا تضمن ما يلي «يمنع على العمال الجزائريين التجول ليلا بين الساعة الثامنة والنصف ليلا إلى الخامسة والنصف صباحا في شوارع باريس والضواحي الباريسية»، بقصد شل نشاط الوطنيين الجزائريين الذين كانوا يلتقون بعد خروجهم من العمل في المقاهي والمطاعم، ابتداء من الساعة السادسة مساء وما بعدها، وذلك لدفع اشتراكاتهم ومناقشة الوضع في الجزائر مع قادة فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا. كما أن الاستراتيجية من اتخاذ هذا القرار، محاولة تكسير النشاط التعبوي لصالح جبهة التحرير الوطني داخل فرنسا، لأن هذا النشاط يدعم الكفاح المسلح بالجزائر وميزانية الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. لذا جاء هذا القرار لفرض حصار مشدد على المهاجرين الجزائريين العاملين بفرنسا، فضلا عن أن الممارسات القمعية الفرنسية أدت بفيدرالية جبهة التحرير الوطني إلى إعطاء أمر إفشال قرار منع التجول، وأعلنت وقتها نداء العصيان. وتلبية لهذا النداء، أقدم الآلاف من المهاجرين الجزائريين على التظاهر سلميا (مسيرة احتجاجية ليس فقط لمنع التجول، بل للوقوف ضد المضايقات والتعذيب، والاعتقالات التعسفية التي قام بها موريس بابون محافظ شرطة باريس، إضافة إلى فرق الحركى من الجزائريين الذين جلبهم شارل ديغول وأنشأ لهم معسكرا للتدريب بضواحي باريس، ووزعهم في الأحياء الباريسية التي يتركز فيها المهاجرون الجزائريون). ومن الأسباب الأخرى التي دفعت إلى التظاهر، التنديد بسياسة التمييز العنصري والمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين الجزائريين. بدأت المظاهرات السلمية بعد أن توجه العمال الجزائريون، بعد خروجهم من العمل، إلى ساحة «الأوبيرا» التي تعتبر من الأماكن الاستراتيجية بباريس. ولمواجهة هذه المظاهرات السلمية، قامت الشرطة الفرنسية بسدّ كل المنافذ المؤدية إلى هذه الساحة، ومحاصرة الشوارع الرئيسية ب07 آلاف شرطي، إلى جانب الفرق المتخصصة «سي. أر.أس»، إضافة إلى فرق الحركى، بعدها أعطى السفاح «موريس بابون» أمرا بالتصدي لهذه المظاهرات، أستخدمت فيها كل الوسائل وأساليب القمع. ولم يتوقف القمع عند هذا الحد، بل لجأت الشرطة الفرنسية إلى إلقاء المهاجرين الجزائريين أحياء في نهر «السين». -تؤكدون سلمية المظاهرات، كيف كان ذلك؟ تروي كل الأبحاث التي اطلعت عليها، أن فيدرالية جبهة التحرير الوطني في فرنسا، أعطت تعليمات صارمة وصريحة للمهاجرين الجزائريين بالمحافظة على سلمية المظاهرات، من خلال التزام الهدوء وتفادي تعطيل الحركة في الشوارع، أو الإخلال بالنظام العام وعدم استعمال الأسلحة مهما كان شكلها، والاكتفاء برفع الرايات كتب عليها «تحيا الجزائر المستقلة، تحيا جبهة التحرير الوطني، إلغاء منع التجول، إطلاق سراح بن بلة»...إلخ.
هل لنا أن نعرف نتائجها على المهاجرين وعلى الثورة؟ طبعا بعد أن أمر محافظ شرطة باريس «موريس بابون» السفاح، بمحاصرة المتظاهرين والقضاء عليهم، تم إطلاق الرصاص بشكل عفوي، حيث قتل المتظاهرون في الممرات على الأرصفة، منهم من رمي بهم في نهر السين، وتم اعتقال 7500 مهاجر جزائري، بحسب إحصائيات التي قدمها «جون لوك إينودي» صاحب كتاب «معركة باريس»، من ضمن هؤلاء 1500 مهاجر نقلوا إلى الجزائر على ظهر سفينة بحرية بتاريخ 19 أكتوبر. وبحسب فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا، فقد وصل عدد الشهداء إلى 200 شهيد و2300 جريح، يضاف إليها عدد من الموقوفين. أما فيما يخص نتائجها على الثورة، فضريبة الشهداء لم تذهب سدى، لكن بقيت المجزرة صورة سوداء في تاريخ فرنسا الاستعمارية وباريس عاصمة حقوق الإنسان، إذ حققت الثورة بواسطتها انتصارات على مستوى الرأي العام الفرنسي، ساعدت على كسب التعاطف مع القضية الجزائرية، إلى جانب فشل السياسة الاستعمارية في التمييز بين الجزائريين في الجزائر، والمهاجرين في فرنسا، كما أنها شكلت ضغطا لصالح استمرار المفاوضات التي تعثرت في مرحلتها الأولى. هذه المفاوضات تم استئنافها في 29 أكتوبر 1961 بمدينة «بال» بسويسرا، بين الوفدين الجزائري والفرنسي. أما على المستوى الدولي فتم إصدار لائحة أممية في 15 نوفمبر 1961، تؤكد على تقرير مصير الشعب الجزائري. بينما حققت هذه الضريبة على المستوى الإعلامي نتيجة كبيرة، حيث تناقلت الصحف العالمية أخبار المظاهرات، تضمنت في طياتها رسائل التنديد من خلال التأكيد على سلمية المظاهرات والحسرة على نتائجها، وكتب «جون فاريحو» في 20 أكتوبر 1961 على صفحات جريدة «France soir» ما يلي: «الشرطة قامت بتفتيش 12 ألف رجل في مساء 17 أكتوبر 1961، ولم تجد عند هؤلاء أي سلاح. المسلمون إلتزموا بالتوجيهات بشكل صارم والتي أكدت على الهدوء وتجنب الصراخ وإثارة الفوضى....». وأكد الصحافي «بيار فيونسو- بونتي» في 20 أكتوبر 1961 على صفحات يومية «لوموند» قائلا: «المواكب لم تكن أبدا عنيفة أو مهددة وبرهنت على أنها ضد العنف». ويضيف الصحافي «دونيس بيريي- دافي: «في 23 أكتوبر 1961 في جريدة «لوفيغارو Le Figaro»، أن «شهودا أكدوا أن المتظاهرين قبض عليهم دون أدنى مقاومة، والشرطة لم تعثر على أية حالة تمتلك السلاح. ونستنتج من خلال الإشارات المختلفة والمعلومات التي وردت إلينا، أن عدد الجرحى المسلمين كان مرتفعا». محطة لأخطر مجازر الإرهاب الدولي الممارس في حق المهاجرين البعض يصف ما حدث خلال مظاهرات 17 أكتوبر 1961 بالبشاعة؟ فعلا أن ما حدث يوصف بالبشاعة، على حد تعبير المناضل «سعيد عديل»، أحد من عايشوا المجزرة عن قرب بصفته منخرطا في فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا وتعرض للتعذيب والضرب من طرف الشرطة الفرنسية، حيث يذكر أن الشرطة الفرنسية كانت تطلق الرصاص على المتظاهرين بأسلحة أوتوماتيكية، تحت أنظار السكان، حيث قامت بمحاصرة المتظاهرين ومنعهم من التوجه نحو جسر باريس، وإلقاء بعضهم في مياه نهر «السين»، فضلا على أنه ومن خلال ما سبق ذكره يمكن القول إن مظاهرات 17 أكتوبر 1961 هي تاريخ لمجازر الإرهاب الفرنسي ووصمة عار في تاريخ فرنسا الاستعمارية. وهي بمثابة محطة لأخطر مجازر الإرهاب الدولي، الذي مارسته السلطة الفرنسية في حق المهاجرين الجزائريين. ومن جهة أخرى تعتبر قفزة نوعية دفعت بالثورة الجزائرية إلى تحقيق نتائج على المستويين الوطني والدولي من خلال التعريف بالقضية الوطنية ودعم الثورة ماديا ومعنويا.