انتهى معترك انتخابات الرّئاسة الفرنسية بإفراز شاب في مقتبل العمر اسمه مانويل ماكرون رئيسا للجمهورية الفرنسية بعد فوزه على منافسته مارين لوبان رئيسة الجبهة الوطنية المتطرّفة بفارق كبير، لكن الرّهان الذي ينتظر هذا الرئيس الشاب هو الانتخابات التّشريعية أو ما يعرف لدى الأوساط السياسية الفرنسية ب «الدورة الثالثة للانتخابات الرئاسية» لأنّها وحدها التي تحدّد نمط حكم الرئيس الجديد، أي هل سيكون فعلا الآمر النّاهي أي الرئيس الفعلي بصلاحيات مطلقة ضمن نظام شبه رئاسي أم مجرّد رئيس يخضع لحسابات التحالفات والتعايش، وبالتالي سيجد نفسه غير قادر على تقديم شيء يخلد مروره على الايليزيه ويدوّن اسمه على حوليات هذا القصر؟ الرّئيس المنتخب ماكرون لم يترشّح تحت مظلّة الحزب الاشتراكي الذي انسحب من صفوفه وأسّس على أنقاضه حركة «إلى الأمام»، وكانت القاطرة التي أوصلته إلى الاليزيه بعدما أدرك أنّ الحزب الاشتراكي لم يعد الوسيلة المضمونة، وهذا لم يمنع اليسار من دعمه وفي مقدّمتهم الرئيس المنتهية ولايته فرانسوا هولاند، أمّا ماكرون لم يخض غمار الرئاسيات تحت مظلة اليمين، كما هو التقليد السائد منذ تأسيس الجمهورية الخامسة أي اليمين أو اليسار، ولكن رغم ذلك الكثير من الوجوه اليمينية البارزة (الجمهوريين) أعلنوا دعمهم لماكرون في الدور الثاني تحت شعار إنقاذ الجمهورية وقطع الطريق أمام اليمين المتطرّف، والنتيجة كانت وصول شخصية هجينة إلى الرّئاسة الفرنسية بعدما أقنع خطابه قطاعا واسعا من أنصار اليمين ووجدت شريحة كبيرة من اليسار المتهاوي ضالتهم في هذا الخطاب تماما في سيناريو على الطّريقة الأمريكية مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما مع اختلاف في بعض التّفاصيل والمشاهد. اختيار ماكرون لمتحف اللوفر وسط العاصمة باريس لإلقاء خطاب الفوز أو الانتصار وما يحمله المكان من رمزية لدى الفرنسيين (التاريخ المشترك) ثم صعوده إلى المنصّة وحده لإلقاء الكلمة على غير ما جرت عليه العادة مع سابقيه، يؤكّد أنّ ماكرون يريد أن يقدّم نفسه رئيس إجماع، رئيسا لكل الفرنسيّين بمختلف توجّهاتهم ومشاربهم، رئيس يلقي خطاب الفوز بالرّئاسة ولكن عينه على التشريعيات لأنّه يدرك أنّ نجاح مهمّته بقصر الاليزيه يمرّ عبر حصوله على أغلبية برلمانية مريحة حتى لا تتحوّل الجمعية الوطنية الفرنسية إلى مقبرة لمشاريعه وطموحاته، خاصة وأنّ الأخير غير مسنود بخلفية حزبية يمكن أن يخوض بها غمار التّشريعيات التي اعتبرتها لوبان معركتها الكبرى بعد الرئاسيات، وهي تهنّئ ماكرون ذكّرته بأنّه ربح المعركة وليس الحرب وأنّها غير مستعدّة لإلقاء المنشفة، ويبدو أنّ ماكرون تلقف هذه الرسالة جيّدا وفهم حجم التحديات التي تنتظره خلال عهدته الرئاسية الأولى باعتبارها العهدة التي سوف لن تحدّد مصيره السياسي فقط كما حصل مع ساركوزي الذي انتحر سياسيا، ولكن مصير الجمهورية الخامسة كذلك إن لم ينجح في إنقاذها ولم يجد التوابل الأساسية لرأب الشّرخ المتزايد في المجتمع الفرنسي، واستعادة انسجامه المجتمعي، ولعل النّتائج التي حقّقها اليمين المتطرّف في الدور الثاني من الرّئاسيات يعكس حجم هذا الشّرخ الذي أصبح يثير مخاوف الجمهوريّين والاشتراكيّين على حد سواء. إنّ هذا الإدراك المشترك لدى الفريقين معا هو ما سينتهزه ماكرون، ويجعل منه الوقود الذي يحرّك قاطرته في الانتخابات التّشريعية، وسيشكّل لبّ الخطاب الذي سيحاول أن يقنع به الجميع من أجل الاصطفاف خلف مشروعه ودعمه للحصول على الأغلبية في البرلمان، والتجنّد لقطع الطّريق أمام اليمين المتطرّف لمنعه من الاستحواذ على البرلمان كما قطع أمامه طريق الاليزيه. يبدو أنّ هذا الإدراك أصبح قناعة مشتركة لدى الطبقة السياسية في فرنسا، وما تصريحات الكثير من قيادات اليسار الفرنسي ومن الجمهوريين الذين سارعوا إلى تهنئة ماكرون ومباركة فوزه، والدعوة الصّريحة إلى دعمه والشد على يديه إلاّ دليل واضح على ذلك ما عدا بعض المتردّدين على غرار جون لوك ميلونشون، الذي يرى أنّ حزبه الوريث الشّرعي لتركة اليسار المتهاوي، الذي حقّق أسوأ نتيجة له في تاريخ المشاركة في الانتخابات الرئاسية بحصول مرشّحه بونوا أمون على 6 من المائة في الدور الأول من الرّئاسيات الفرنسية لهذه السنة.