فرضت نتائج الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية الفرنسية على الناخبين الفرنسيين، لأول مرة منذ تأسيس الجمهورية الخامسة، الاختيار بين مرشحين لا ينتميان للحزبين التقليديين اليمين واليسار، بعدما تكبدا هزيمة قاسية أمام إيمانويل ماكرون مؤسس حركة إلى الأمام ومارين لوبان زعيمة الجبهة الوطنية المتطرفة. انتخب الشعب الفرنسي، رئيسيا جديدا لا ينتمي إلى الحزب الاشتراكي (اليسار) ولا إلى الحزب الجمهوري (اليمين)، في سابقة لم يشهدها التاريخ السياسي لفرنسا منذ سنة 1958. وبقدر المفاجأة التي صنعها السياسي الشاب إيمانويل ماكرون، كانت هزيمة اليمين واليسار في الدور الأول للانتخابات في 23 أفريل الماضي بمثابة القنبلة الكبرى التي ضربت معسكري اليسار واليمين مخلفة هزيمة نكراء أسالت الكثير من الحبر وسط الإعلام الفرنسي. وتعددت التحاليل التي سلطت الضوء على هذا الخروج المبكر وغير المسبوق لهاتين التشكيلتين، لتلتقي جمعيها في نقطة مفادها أن «الهزيمة وقعت في الانتخابات التمهيدية التي أفرزت فيون بدل جوبي لدى اليمين وهامون بدل فالس لدى اليسار». وعرفت الانتخابات التمهيدية داخل كل معسكر تنافسا حادا بين المرشحين كرس الانقسام بداخلها ولم تنجح في استعادة لحمتها بالشكل اللازم عندما تعلق الأمر بالمنافسة الحاسمة، خاصة داخل الحزب الاشتراكي بدليل أن غالبية إطاراته ومناضليه انضموا سرا وعلانية لحملة إيمانويل ماكرون مؤسس حركة «إلى الأمام» وفي مقدمتهم رئيس الوزراء السابق مانويل فالس. وبعد شد وجذب، قدم الحزب الاشتراكي فارسه للسباق نحو قصر الاليزيه ممثلا في السياسي الشاب بونوا هامون، والذي صدم بنتيجة قاسية في الدور الأول حيث لم تتجاوز نسبة الأصوات التي حاز عليها ال 6.3 بالمائة، وسجلت كأضعف نتيجة في تاريخ الحزب منذ 1969. وتبخر بذلك أمل الحزب الاشتراكي في الحفاظ على كرسي الحكم لعهدة ثانية مكتفيا ب5 سنوات قضاها رئيس الحزب السابق والرئيس الحالي لفرنسا فرنسوا هولاند داخل قصر الإليزيه. وإذا كان اليسار التقليدي، قد تجرع مرارة الهزيمة في الدور الأول للانتخابات سنة 2002، التي وصل فيها الرئيس الأسبق جاك شيراك وزعيم اليمين المتطرف جون ماري لوبان إلى الدور الثاني، فإنها المرة الأولى التي يعجز فيها اليمين عن تحقيق ذلك منذ تأسيس الجمهورية الخامسة. فبعد أشهر من التنافس داخل الحزب الجمهوري بين الرئيس السابق نيكولا ساركوزي ورئيسي الوزراء السابقين آلان جوبي وفرنسوا فيون، فاز الأخير بنسبة 66 بالمائة ليخوض غمار المنافسة. وقبل أن يتخلص نهائيا من نشوة الفوز، صعق فيون بملف فساد أخرجته صحيفة «لوكنار أونشينيه» إلى الرأي العام، يفضح وظائف وهمية لزوجته بينيلوب ما جعله يتدحرج سريعا إلى المركز الثالث في استطلاعات الرأي. وأخلط تمسك فيون بمواصلة ترشحه للرئاسيات حسابات اليمين الذي حضر جوبي كورقة بديلة تفاديا لكارثة قد تحل بالحزب، وتزامن استمراره مع ظهور فضيحة جديدة تتعلق بتلقيه ملابس فاخرة وساعات ثمينة بطريقة مشبوهة، لتكون النتيجة مذلة في الدور الأول حيث اكتفى بالمركز الرابع حاصدا 19 بالمائة من الأصوات. خروج اليمين واليسار من السابق، استثمر فيه إيمانويل ماكرون الذي حظي بدعم المعسكرين في معركته مع زعيمة الجبهة الوطنية مارين لوبان، ووضع في فرنسا تحت حكم تيار وسطي معتدل لأول مرة.