شكل التعديل الدستوري الذي بادر به رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، وصادق عليه البرلمان بغرفتيه المجتمعتين معا بتاريخ السابع فيفري 2016، طفرة نوعية وتحولا عميقا في تجذير الممارسة الديمقراطية في الجزائر، وقد استحدث هذا التعديل الدستوري من بين أمور أخرى عدة أجهزة رقابية واستشارية تتولى مهام معينة تندرج كلها في إطار تعزيز دولة الحق والقانون، وتسعى إلى تعزيز أسس الحكم الراشد في مختلف المجالات كالمجلس الوطني لحقوق الإنسان والمجلس الأعلى للشباب ....إلخ. لعلّ أهم الهيئات الرقابية التي استحدثت بموجب التعديل الدستوري الأخير، يمكن الإشارة إلى الهيئة العليا المستقلة لمراقبة الانتخابات، التي تندرج في إطار الإصلاحات السياسية العميقة التي عرفتها الجزائر، والتي تهدف إلى تدعيم ركائز دولة القانون، وتكريس مبدأ التداول الديمقراطي على السلطة. يأتي إنشاء هذه الهيئة كذلك إعمالا للمادة 193 من الدستور التي تفرض على السلطات العمومية المكلفة بتنظيم الانتخابات إحاطاتها بالشفافية والحياد. ولاشك أن الانتخابات التشريعية التي جرت بتاريخ الرابع ماي الجاري، اتسمت بكونها أول استحقاق انتخابي يجري بعد التعديل الدستوري لعام 2016، من جهة، ومن جهة أخرى، فقد كانت هذه الانتخابات المناسبة الأولى لاضطلاع الهيئة العليا المستقلة لمراقبة الانتخابات بمهامها، وعلى الرغم من حداثة هذه الهيئة، إلا أن المهام الموكلة إليها يمكن اعتبارها ضمانة من الضمانات التي تعزز شفافية ومصداقية الانتخابات، وبالتالي تشكل ركيزة من ركائز الديمقراطية وأساسا يستجيب لمقتضيات الحكم الراشد. إن الهيئة العليا المستقلة لمراقبة الانتخابات باعتبارها جهازا للمراقبة يسهر على شفافية الانتخابات، منذ استدعاء الهيئة الناخبة حتى إعلان النتائج المؤقتة للاقتراع، هي كذلك هيئة رقابية مستقلة، إذ عمل المؤسس الدستوري على ضمان مختلف مظاهر استقلالية هذه الهيئة بداية من رئيسها والذي يعين من قبل فخامة رئيس الجمهورية، لكن شريطة استشارة الأحزاب السياسية، وأن يكون الشخص المعين من قبل الشخصيات الوطنية من الأشخاص الذين يتمتعون بالجنسية الجزائرية وحدها دون سواها، وهذا ما من شأنه أن يعزز استقلالية الهيئة من جهة ويعطي للعمليات الانتخابية شفافية ومصداقية من جهة أخرى. إضافة إلى استقلالية أعضاء الهيئة كذلك الذين يجمعون بشكل متساو بين قضاة يقترحهم المجلس الأعلى للقضاء، ويعينهم رئيس الجمهورية، وكفاءات مستقلة يتم اختيارها من ضمن المجتمع المدني، يعينها رئيس الجمهورية. على سبيل المقارنة فقط، نجد مثلا أن الدستور التونسي لعام 2014 نص في فصله 126 على استحداث الهيئة العليا المستقلة للانتخابات كهيئة دستورية تسهر على مراقبة العمليات الانتخابية، إلا أنه حصر عدد أعضائها في تسعة أشخاص مستقلين من ذوي الكفاءة والنزاهة، وبالمقابل فإن المؤسس الدستوري الجزائري وسَّع من دائرة العضوية للهيئة إلى المجتمع المدني، إيمانا منه بأن مقومات الحكم الراشد لن تتحقق، إطلاقا إلا بالمشاركة الفاعلة للمجتمع المدني. وعليه فإن تشكيلة الهيئة والتي تجمع بين المجتمع المدني والقضاة من ذوي الخبرة والكفاءة سيمنح مصداقية أكبر لهذه الهيئة في أداء وظيفتها باعتبارها جهازا دائما للرقابة على الانتخابات وقد قطع المؤسس الدستوري شوطا كبيرا في هذا المجال، حيث سبق حتى بعض الأنظمة الديمقراطية العريقة في جعل الهيئة العليا المستقلة لمراقبة الانتخابات هيئة دائمة وخصّها بقانون عضوي مستقل عن القانون العضوي المتعلق بنظام الانتخابات. تجدر الإشارة إلى أنه يراعى في تشكيل الهيئة العليا بعنوان الكفاءات المستقلة التمثيل الجغرافي لجميع الولايات والجالية الوطنية في الخارج، كما أن أعضاء الهيئة العليا يمارسون صلاحياتهم بكل استقلالية، إذ تضمن الدولة حمايتهم في إطار ممارسة مهامهم من كل تهديد أو أي شكل من أشكال الضغط. بالمقابل يحظر على أعضاء الهيئة العليا المستقلة لمراقبة الانتخابات المشاركة في كل النشاطات التي تنظمها الأحزاب السياسية أو حضورها، باستثناء الحالات التي يزاولون فيها مهامهم الرقابية المنصوص عليها في القانون العضوي المنظم للهيئة، وهذه كذلك ضمانة أخرى من ضمانات نزاهة ونظافة العملية الانتخابية. تتولى الهيئة العليا على الخصوص، مهمة الإشراف على عمليات مراجعة الإدارة للقوائم الانتخابية، مما يضمن عدم قيام الإدارة بأي عمل قد يمس بشفافية التحضير للعمليات الانتخابية ويجنب تزويرها، وهو ما يعطي كذلك مصداقية للهيئة في أداء مهامها على أحسن وجه. كما تتولى الهيئة صياغة مختلف التوصيات التي تسعى إلى تحسين النصوص التشريعية والتنظيمية التي تحكم العمليات الانتخابية، ولاشك أن الممارسة الميدانية للهيئة ستكشف لها وفي كل مناسبة ربما عن الثغرات الموجودة في النصوص المنظمة للانتخابات وتقديم اقتراحات لتحسينها، بغية ضمان شفافية أكبر للاستحقاقات الانتخابية المقبلة، وقد صرح السيد عبد الوهاب دربال، رئيس الهيئة عشية الانتخابات التشريعية للرابع ماي بأن هذه الأخيرة لاحظت وجود بعض الثغرات في القانون العضوي المنظم للانتخابات، وهو ما يستدعي إعادة النظر فيه مستقبلا. زيادة على ذلك، فإن تنظيم دورة لتكوين التشكيلات السياسية بخصوص مراقبة الانتخابات وصياغة الطعون، يشكل ضمانة أخرى لشفافية الانتخابات، كما أن هذه المهام كلها ستساهم أولا في نشر الثقافة الانتخابية لدى المواطن الجزائري، وتعزز ثانيا الثقة لدى المواطن في شفافية العملية الانتخابية، مما سيحفزه على أداء واجبه الانتخابي بكل أريحية، لأنه يعلم مسبقا أن إختياره سيتم حمايته من خلال هذه الهيئة، وهو ما من شأنه أيضا أن يعالج من مسألة العزوف الانتخابي والتي في الحقيقة تعد ظاهرة عالمية تعرفها حتى الدول الديمقراطية العريقة. في الأخير، نشير إلى أن مسألة نزاهة الانتخابات ومصداقيتها من بين المسائل الشائكة والمعقدة التي طرحت وتطرح نفسها بشدة في كل مناسبة انتخابية تعرفها أي دولة من دول العالم قاطبة بما فيها الجزائر، وذلك لتعزيز القيم والمبادئ العالمية للديمقراطية والحكم الرشيد، يستدعي العمل على ترسيخ الثقافة السياسية للتناوب على السلطة من خلال انتخابات منتظمة حرة وعادلة وشفافة، يتم إدارتها من قبل هيئات انتخابية وطنية ومستقلة وغير منحازة ذات كفاءة. كما أن الجزائر سبقت العديد من الدول الديمقراطية في استحداث هيئة دائمة تسهر على ضمان شفافية العملية الانتخابية، في سياق الإصلاحات السياسية التي عمل فخامة رئيس الجمهورية على تكريسها منذ 1999. إن إنشاء الهيئة العليا المستقلة لمراقبة الانتخابات يعد وبكل موضوعية تقدما كبيرا ونجاحا ملموسا في إطار العملية الديمقراطية، فقد كانت الانتخابات التشريعية للرابع من ماي سانحة أتيح فيها للهيئة ممارسة المهام الدستورية المنوطة بها في جو يسوده الهدوء واحترام القوانين الناظمة للعملية الانتخابية، كما أن هذه الانتخابات في الواقع يمكن القول أنها جرت في جو من الشفافية وفق ما أكده الملاحظون الدوليون في مختلف التصريحات، ولذلك يبقى أن نشير في الأخير بأن الحكم على نجاح أو فشل الهيئة العليا المستقلة لمراقبة الانتخابات سابق لأوانه.