لم يعد شبح البطالة الذي يؤرق حكومات عبر العالم معضلة يستحيل ترويضها أو الإمساك بخيوطها، بعد أن أظهرت الأرقام التي أعلن عنها الديوان الوطني للاحصاء تطورا في المؤشرات بتسجيل تراجع نسبة البطالة إلى مستوى 10,2 بالمئة خلال الثلاثي الرابع من السنة المنصرمة 2009، لينحصر عدد البطالين بالمفهوم المحدد من المكتب الدولي للعمل في حدود 1,072,000 شخص، تتراوح أعمارهم بين 19 سنة و59 سنة، علما أن نسبة البطالة التي لطالما أرقت القائمين على شؤون الدولة في حدود 11,3 بالمئة في الثلاثي الرابع من سنة 2008. ومن خلال تحليل معطيات الملف، تبين أن البطالة لا تزال تنحصر بشكل مثير للانتباه، ويستدعي إجراءات علاجية في العنصر النسوي ب 18 بالمئة مقابل 8 بالمئة للذكور، و37 بالمئة من ضحاياها من ذوي السن دون الثلاثين، بينما 86 بالمئة من البطالين من الجنسين من ذوي أقل من الخامسة والثلاثين من العمر، وهي أرقام تحمل دلالات مثيرة للمتابعة والاهتمام من جانب أصحاب القرار السياسي والاقتصادي بما فيه المتعاملون في القطاع الخاص. ولا يزال جانب منهم متأخر بالنسبة للإنشغالات الوطنية، ويحجم على الانفتاح على المحيط البشري من حوله، بينما لا يتأخرون عن خط الإستفادة الأول من الإمتيازات والتحفيزات العمومية. تراجع سقف البطالة بهذا الشكل يدلل على أن ثمار تأطير الإصلاحات وتنمية الاستثمارات العمومية من خلال مختلف البرامج التنموية المندمجة على مدار السنة الاخيرة، بدأت تبرز وتتطلب مزيدا من التعميق والترسيخ، وإعادة توجيه الخيارات بما يقحم أكثر فاكثر قطاعات أخرى لا تزال متأخرة عن الركب في مجال توفير مناصب وفرص العمل على غرار السياحة، التي لو تنطلق على نحو اقتصادي مكثف ولديها من عناصر النمو ما يساعدها على بلوغ الأهداف المرسومة بإمكانها أن تلعب دورا بارزا في الضغط على البطالة لتتراجع بنسبة معتبرة. وإذا كانت الخدمات بمفهومها الشامل وبالذات التجارة والمصارف والمعلوماتية تستوعب حاليا القوة العاملة، وكتلتها تتجاوز العشرة ملايين ناشط على الساحة الاقتصادية بنسبة 56 بالمئة مقابل 18 5 لقطاع البناء والاشغال العمومية، و13 بالمئة لقطاع الفلاحة، فإن القطاع الصناعي لا يزال دون المستويات المأمولة، إذ لم يتعد 12 في المئة من طاقة توفير مناصب العمل، ما يعيد إثارة مسألة تطوير الإستراتيجية الصناعية الوطنيية التي لا يبدو أنها تمخضت على ما يساعدها للنزول إلى الأرض، بل أن الحديث بشأنها تراجع بعد أن علا بشكل ملحوظ في مدة سابقة، ويجهل إن كان السبب في إحاطة الملف بالصمت يعود إلى مسألة مراجعة الخسارات أم التكلفة التي تستلزمها مثل تلك الخيارات، خاصة من حيث اقتناص مكاتب دراسات أجنبية تعرف من أين تؤكل كتف الاقتصاد الوطني بتواطؤ عملائهم المحليين، وهو أمر حسمت الدولة بشأنه الموقف بالتأكيد على وقف الإفراط في اللجوء إلى مكاتب دراسات أجنبية، تقدم في نهاية المطاف خلاصات يمكن العثور عليها في بلادنا، بل غالبا ما ينجزها مختصون محليون. هذا إن لم تكن في الموضوع ألاعيب سرعان ما تنكشف، ما يستوجب من الدائرة الوزارية المعنية توضيح الموقف للرأي العام خاصة بالنسبة لمسألة الأقطاب الصناعية، ومدى القدرة على ضمان التنافسية ما يتطلب تعميق الملف ومعالجة كافة جوانبه تفاديا للسقوط في متاهات تمويل استراتيجية عرجاء تلتهم ولا تقدم البديل. إلا أن لأزمة التي انفجرت مؤخرا بالشركة الوطنية للسيارات الصناعية بالرويبة بدخول عمالها في إضراب، لمحت لوجود اختلالات معينة في تطوير التصورات وسرعان ما تعود للظهور بزوال مسكنات التمويل العمومي، وإن كان ما طرحته الثلاثية الأخيرة في باب التقاعد بإعلان اللجوء إلى إلغاء التقاعد المسبق كان بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس لتفجر تراكمات تثقل الجبهة الاجتماعية. وقد أعربت قطاعات كثيرة عن رفضها إلزام الشغيلة بالبقاء إلى إتمام العقد السادس في ظل انسداد آفاق تسيير المسارات المهنية، واندثار آليات الترقية الاجتماعية والصدأ الذي يأتي على القدرة الشرائية التي ما إن تستنشق أكسجين النهوض حتى تصيبها نار التهاب الأسعار، التي لم تعد تلجمها قوانين أو تنظيمات مما يتطلب من أفواج العمل المختلطة المعنية بتقديم تصورات لحلول منصفة امتلاك الجرأة على اقتراح حلول مرنة ومتدرجة في الزمن. وقد دعت المركزية النقابية من قبل الكفاءات الجامعية المختصة إلى الإسهام في توسيع الرؤية بشأن التأطير القانوني للتقاعد على أساس حماية مكسب التقاعد المسبق والتقاعد النسبي، والتوصل إلى إطار ملائم يراعي مختلف العوامل بعيدا عن اللجوء إلى الحلول السهلة ولكنها المثيرة للأزمات. وفي هذا الإطار، أليس من المفيد البحث أيضا في مسألة اتساع الرغبة في اللجوء إلى التقاعد المسبق والنسبي بشكل يثير أكثر من سؤال؟ وهل هو راجع للقدرة الشرائية فقط أم إلى عوامل أخرى غير مادية يعاني منها عالم الشغل؟