بقلم: ابن خلدون: IBN-KHALDOUN@MAKTOOB.COM واليوم ينهار كل شيء ويقف مساعدو الرئيس الأمريكي ونائبه أمام القضاء. هذا القضاء الذي لم يتحرك ضد جرائم الحرب الأمريكية ومقترفيها بدءا من بوش إلى رامسفيلد وجنرالات علوجه، سواء في أبو غريب أو في غوانتانامو أو المعتقلات السرية. لكنه تحرك بسرعة حينما تعلق الأمر بكشف الغطاء عن عميل سري. قبل أزيد من سنة كتبت في هذا الركن موضوعا عن لعنة الصفر الأمريكي على رؤساء الولاياتالمتحدة (الشروق اليومي 01/12/2005 عدد 1549)، أوردت فيه ما نشره الصحافي الأمريكي ديون ديكر عام 1962 من أن كل رؤساء الولاياتالمتحدة الذين اعتلوا سدة الحكم في سنة تنتهي بعدد زوجي بعده صفر أو تنتهي بصفرين تعرضوا للاغتيال أثناء فترة رئاستهم. وذكرت وقتها أن الحكاية بدأت على أيام الرئيس وليام هاريسون (1840) الذي توفي شهرا واحدا بعد أدائه اليمين الدستورية، وتكرر الأمر مع أبراهام لينكولن (1860) الذي اغتيل بعد انتخابه بخمس سنوات. بعده جيمس جارفيلد (1880) الذي اغتيل في السنة الموالية لانتخابه. ثم ويليام ماكينلي (1900) الذي اغتيل هو الآخر بعد عام ونيف عن بداية عهدته الرئاسية الثانية. فالرئيس وارن هاردينغ (1920) الذي مات مسموما في البيت الأبيض. وبعده فرانكلين روزفلت (1940) الذي مات بالسكتة الدماغية أثناء فترة رئاسته. ثم جون كيندي (1960) الذي قتل في دالاس عام 1963. ولم يسلم من الاغتيال إلا رونالد ريغن (1980) رغم تعرضه لمحالة فاشلة من قبل جون هنكلي. ومنذ انتخاب الرئيس الحالي جورج بوش الإبن عام 2000 والعالم يرقب أن تشمله دائرة النحس هذه. وإذا كان بوش قد سلم لحد اليوم من لعنة الصفر التي لحقت أسلافه، فإنه لا يبدو أنه سلم من لعنة ثانية تحل بالرؤساء الأمريكيين، وهي ما يسمى بفضائح العهدة الرئاسية الثانية. وهي الفضائح التي مست عددا من الرؤساء الأمريكيين. وتمثلت في تفجر فضيحة خلال الفترة الرئاسية الثانية لبعضهم. ويبدو أن بوش لم يستطع تفادي الفضيحة كما تفادى الاغتيال. وتاريخ فضائح العهدة الثانية بدأ مسلسله على أيام الرئيس فرانكلين روزفلت في الثلاثينيات من القرن الماضي حينما حاول خلال فترة رئاسته الثانية زيادة عدد أعضاء المحكمة العليا من 9 الى15. حيث لقيت محاولته هزيمة ساحقة في مجلس الشيوخ، أرفقتها فضيحة اتّهم روزفلت إثرها أنه يحاول معاقبة المحكمة العليا لاعتراضها على بعض من سياساته. وتكرر الأمر مع الرئيس إيزنهاور خلال فترة رئاسته الثانية. حيث تفجّرت فضيحة رئيس طاقم العاملين في البيت الأبيض بعد اعترافه بتلقي هدايا اعتبرت من قبيل الرشاوى. أما على أيام الرئيس ريتشارد نيكسون فقد كان وقع فضيحة الفترة الرئاسية الثانية قويا. الأمر الذي اضطر الرئيس للاستقالة بسبب فضيحة ووترغيت الشهيرة. ولم يسلم الرئيس رونالد ريغن في عهدته الثانية من فضيحة مماثلة هي فضيحة إيران كونترا. واليوم تضرب فضيحة جديدة البيت الأبيض في فترة بوش الإبن الثانية وهي فضيحة لويس ليبي. وليبي هذا هو مدير مكتب نائب الرئيس ديك تشيني. وهو من المحافظين الجدد الداعين لغزو العراق ومعاقبة سوريا، وقيام الولاياتالمتحدة بالحرب نيابة عن إسرائيل ولصالحها. لذا لم يتوان عن جمع التهم وتلفيقها للعراق قصد خلق إجماع دولي مؤيد للغزو. وهو المسؤول عن خطاب وزير الخارجية كولن باول في الأممالمتحدة حول أسلحة الدمار الشامل في العراق. وهو الخطاب الذي اعتبره باول نفسه فيما بعد بأنه خطاب مشين. ويذكره الصحافي الشهير بوب وودوورد مفجر فضيحة ووترغيت في كتابه »خطة الهجوم« بأنه (أي ليبي) أحد الأسماء التي تعلب دورا حيويا في القرارات الرئيسية في البيت الأبيض. وتعود القضية إلى جويلية 2003 حينما كان السعي محموما لدى الإدارة الأمريكية لتقديم أكبر قدر من الأدلة على مسعى نظام صدام حسين لامتلاك أسلحة الدمار الشامل. ومن بين هذه الأدلة حصول النظام العراقي على اليورانيوم من النيجر. وهو ما فنّده السفير الأمريكي هناك والذي كان معارضا للحرب. وبهدف إسكات هذا الدبلوماسي كشف الغطاء عن زوجته فاليري بليم التي كانت عميلة في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية. مع العلم أن كشف هوية عميل سري يعتبر جريمة فيدرالية. وقد أدى الأمر إلى سجن الصحافية جوديت ميلر لمدة 82 يوما لرفضها الإفصاح عن مصدر معلوماتها التي نشرتها بشأن زوجة الدبلوماسي. لكن هذه التغطية على لويس ليبي، الذي يعتبر مصدر ذلك التسريب، لم تدم طويلا بحيث انكشف الأمر واضطر لويس ليبي للاستقالة. ويواجه اليوم تهمة شهادة الزور وعرقلة عمل القضاء والكذب على القضاء تحت القسم خلال التحقيق في قضية كشف اسم عميلة لوكالة الاستخبارات المركزية (CIA). وهي التهم التي في حال ثبوتها ستقود ليبي إلى السجن لمدة تصل إلى ثلاثين عاما. المنعرج الخطير الذي أخذته هذه المحاكمة والتي صارت بمثابة الفضيحة للبيت الأبيض كان حين أبلغ ليبي المحكمة أن الرئيس جورج بوش نفسه هو الذي أجاز له تسريب معلومات استخبارية سرية للصحافة بشأن فاليري بليم للانتقام من زوجها السفير المعارض للحرب. وهو ما يعني بأنه من الممكن أن يقوم قاضي التحقيق في القضية باتريك فيتزجيرالد بتوسيع تحقيقاته لتشمل الرئيس الأمريكي ونائبه ديك تشيني. مما يؤشر على فضيحة من عيار فضيحة ووترغيت. وأمام التزام البيت الأبيض الصمت حيال هذه القضية بدأت المضاربات السياسية. فمن قائل بأن ليبي سيعمد إلى صفقة مع القضاء، إلى قائل بأن ليبي شخص وفيّ لرؤسائه وسيفضل دخول السجن بدل توريط تشيني. ليبي، ذي 56 عاما، قد يقضي ما تبقّى من عمره وراء القضبان، يدفعها ثمنا لحماية البقية الباقية من المحافظين الجدد الذين لايزالون بالبيت الأبيض وعلى رأسهم الرئيس بوش ونائبه ديك تشيني. هؤلاء المحافظون الجدد الذين أخذ عقدهم في الانفراط، ونعمة العراق ونفطه التي تخيّلوها تحولت مع مرّ الأيام إلى نقمة تطاردهم حتى داخل البيت الأبيض. فضيحة »بيلام غيت«، التي أدت إلى استقالة لويس ليبي وتقديمه للمحاكمة، صارت تهدد شخصا آخر في حلقة المحافظين الجدد هو ديفيد ووزمزر وهو ليكودي إسرائيلي مثل زوجته الإسرائيلية ميراف ويعمل مستشارا لنائب الرئيس ديك تشيني ضمن موظفي الأمن الوطني مسؤول عن الشرق الأوسط. وهو من كبار المحرضين على سوريا والعراق. ويبدو أن ووزمزر وافق على تقديم معلومات للقضاء لحماية نفسه. وهي معلومات تقول إن التسريب بشأن عميلة المخابرات جرى بناء على اقتراح »من فوق«. وقد يكون هذا الفوق إما الرئيس نفسه، أو مستشاره كارل روف الذي يصفه البعض بأنه دماغ بوش أو عقله المدبر. وفي كلتا الحالتين فالفضيحة ستطال آل البيت الأبيض... وسيكتب التاريخ يوما أن الرئيس الأمريكي، الذي أعجبته كثرة بطانته، فكر وقدر ثم فكر وقدر فقرر أن يغزو العراق، ويعاقب ديكتاتورا اسمه صدام حسين. ثم أعدم هذا الديكتاتور وظنّ أن بإعدامه ستزول كل مقاومة. لكنه كان مخطئا كما أخطأ في تقدير مراهنته على العملاء الذين حملهم ليكونوا سادة عاصمة الرشيد. وكان مخطئا كذلك في رهانه على التأييد العالمي الذي لم يدم طويلا. وكان مخطئا حينما راهن على المحافظين الجدد الذين انفضوا من حوله. لكن عقدهم بدأ في الانفراط حين هجرهم منظرهم الإيديولوجي فرانسيس فوكوياما. وكان مخطئا حينما ظنّ أنه ضحك على أذقان الشعب الأمريكي الذي عاقبه بالتصويت لغرمائه السياسيين الذين أصبحوا يشكلون الأغلبية في الكونغرس. وكان مخطئا في ظنّه أن أقرب مساعديه لن يفشوا أسرار خططه القذرة لإقناع العالم بتلك الحجج الواهية التي سوقها للعالم تمهيدا لغزو العراق. واليوم ينهار كل شيء ويقف مساعدو الرئيس الأمريكي ونائبه أمام القضاء. هذا القضاء الذي لم يتحرك ضد جرائم الحرب الأمريكية ومقترفيها بدءا من بوش إلى رامسفيلد وجنرالات علوجه، سواء في أبو غريب أو في غوانتانامو أو المعتقلات السرية. لكنه تحرك بسرعة حينما تعلق الأمر بكشف الغطاء عن عميل سري. وتحرك حينما أحس هذا القضاء بأن ساسة البيت الأبيض يكذبون عليه هو الآخر. وأيًّا كان الأمر فنحن لا يسعنا إلا أن نفرح لمحاكمة ليبي ومَن وراء ليبي.