لا يهمني إطلاقا السجال المحتدم حول تصريحات وزير التعليم العالي والبحث العلمي بشأن النوابغ في الجزائر لأنني لست مؤهلا للحكم على الآخرين ولا وصيا على أقوالهم وتصريحاتهم. ما يهمني أولا وأخيرا هو الحرص على اجتماع الإرادة الوطنية الذي من شأنه أن يمنح النوابغ في وطني وضعا متميزا لأنهم ببساطة حالة متميزة، ولا أظن أن هناك في الجزائر من يعترض على ذلك أيا كان موضعه، في القمة أو في القاعدة، في السلطة أو في المعارضة. ولا يتحقق -في نظري- الوضع المتميز للنوابغ في الجزائر إلا باستحداث "أكاديمية جزائرية للنوابغ" تحظى بإطار خاص، ويحظى فيها النوابغ برعاية خاصة، لأن ما يُنتظر منهم أكبر من أن يُتصوَّر وهو المساهمة في نهضة الوطن في زمن العلم والعولمة الذي لا مكان فيه إلا للعقول المبدعة. إن مشروع "الأكاديمية الجزائرية للنوابغ" ممكنُ التحقيق بالنظر إلى أن الجزائر تمتلك عقولا مبدعة، ولكنها تحتاج فقط إلى من يأخذ بيدها ويخرجها من طي النسيان، ولا يتأتى ذلك إلا في إطار مؤسسي ضمن ما سميته: "الأكاديمية الجزائرية للنوابغ" التي يمكن – بحسب تصوري- أن أحدد إطارها العام على النحو الآتي: 1- أكاديمية جزائرية شاملة للنوابغ في كل المجالات الأدبية والعلمية، في المستويات الدنيا والعليا، لأن المأمول من ذلك هو إحداث النهضة الشاملة التي يتشكل منها البناء المعرفي المتكامل الذي لا يقصي الشعر لصالح الفكر ولا يقصي الأدب لصالح الطب، ويمكننا أن نستلهم هذا من التجربة الماليزية التي حرصت على الاستثمار في التراث الثقافي المتنوع بشقيه المادي والأدبي. 2- إن مشروع الأكاديمية الجزائرية للنوابغ يمكن أن يتحقق داخل المنظومة الجامعية بتحويل مشروع الأقطاب الجامعية أو جزء منها لتكون نواة لهذه الأكاديمية التي من شأنها – إن تم الاعتناء بها بالشكل المطلوب والمرغوب- أن تكون بداية واعدة لنهضة علمية شاملة داخل الجامعة الجزائرية، كما يمكن أن يتحقق هذا المشروع في كل الفضاءات التربوية والثقافية. 3- من المفارقة أن نفكر في إنشاء الأكاديميات الرياضية المحترفة وهي شيء مطلوب ومرغوب في هذا المجال، ولا نفكر في المقابل في إنشاء أكاديمية جزائرية للنوابغ، فيجب على الأقل أن يكون اهتمامنا بترقية الرياضة مضاهيا لاهتمامنا بترقية الرياضيات واهتمامنا بترقية الكرة مضاهيا لاهتمامنا بترقية الفكرة، وسيكون تحقيق مشروع "الأكاديمية الجزائرية للنوابغ" تجسيدا لهذه الرؤية المتوازنة. 4- يجب أن تُفعَّل داخل الأكاديمية الجزائرية للنوابغ معادلة التبادل العلمي والثقافي بالكيفية العادلة واللائقة التي تحصِّن النوابغ الجزائريين من عمليات الاصطياد المنظمة التي تبادر بها المؤسساتُ والجامعات الأجنبية تحت مظلة التبادل الثقافي الذي يصب في النهاية وبصورة مجحفة لصالح هذه المؤسسات ويزيد في الجانب الآخر من حالة استنزاف واستهداف العقول الجزائرية مما يؤثر سلبا في مستقبل التنمية الفكرية والبشرية في الجزائر. 5- يجب أن يساهم المال العام والمال الخاص في ترقية الأكاديمية الجزائرية للنوابغ على شاكلة ما هو موجودٌ في أوروبا وأمريكا، حيث نجد مؤسسات خاصة للموهوبين والمتفوقين تموَّل بصورة كبيرة من رجال المال والأعمال، ولتفعيل ذلك يجب التفكير في تحويل مشروع الجامعات الخاصة أو جزءٍ منها لتحقيق مشروع الأكاديمية الجزائرية للنوابغ بالنظر إلى الفائدة الكبيرة المرجوَّة منها على صعيد تأهيل المؤسسات العلمية الوطنية وعلى رأسها الجامعات الجزائرية. 6- يجب أن تتعزز الأكاديمية الجزائرية للنوابغ بعددٍ معتبر من مخابر البحث العلمي التي ينبغي استثمارها لمواكبة المشاريع العلمية التي تبادر بها الأكاديمية الجزائرية للنوابغ، فحسن الاستثمار في هذا المجال سيعمل على تغيير معادلة التميز العلمي وسيساهم في تحسين ترتيب الجامعة الجزائرية في التصنيف العالمي للجامعات. 7- إن مشروع الأكاديمية الجزائرية للنوابغ مشروعٌ واعد يُنتظر منه أن يحقق المأمول، ذلك أننا في الجزائر المستقلة نملك نماذج ناجحة ورائدة للأكاديميات الخاصة والمتخصصة التي ساهمت بشكل فعال في النهضة الوطنية الشاملة على غرار "أكاديمية شرشال" في مجال التكوين العسكري والأكاديميات الأخرى في المجالات السياسية وغيرها، ويمكن أن نحقق هذه النجاحات أو نسبة كبيرة منها بتفعيل مشروع "الأكاديمية الجزائرية للنوابغ". 8- للنوابغ دورٌ أساسي في براءات الاختراع وجوائز نوبل التي تحصل عليها بعض المعاهد والجامعات العالمية، فقد أكدت كثير من الإحصاءات الرسمية وغير الرسمية أن النوابغ في هذه الجامعات يشكلون نسبة لا يستهان بها وأن أغلبهم سبب مباشر في حصد جوائز نوبل وبراءات الاختراع، فيجب أن يكون هذا حافزا لصناع الفكرة وصناع القرار في الجزائر من أجل تحقيق مشروع "الأكاديمية الجزائرية للنوابغ". 9- يجب أن تعمل الوصاية والأسرة العلمية في الجزائر، وفي مقدمتها الأسرة الجامعية، على تهيئة الظروف المناسبة من أجل ترغيب العقول الجزائرية المهاجِرة للانضمام إلى الأكاديمية الجزائرية للنوابغ، لأن هذه العقول ستكون لها بلا شك قيمة مضافة في مجال ترقية الأكاديمية وعملها النوعي المتميز. 10- يجب أن تعمل الأكاديمية الجزائرية للنوابغ على الحضور والتميز على الساحة الإقليمية والدولية على وجه الخصوص، وهو شكل من أشكال التعريف بالكفاءات العلمية الجزائرية المتميزة والتعريف بإنتاجهم العلمي والمعرفي في التظاهرات والفعاليات العلمية الإقليمية والدولية، وسيكون عمل الأكاديمية الجزائرية للنوابغ في هذا الإطار شكلا من أشكال الدبلوماسية العلمية التي لا تقلُّ شأنا عن الدبلوماسية السياسية. يجب أن تتعزز الأكاديمية الجزائرية للنوابغ بعددٍ معتبر من مخابر البحث العلمي التي ينبغي استثمارها لمواكبة المشاريع العلمية التي تبادر بها الأكاديمية الجزائرية للنوابغ، فحسن الاستثمار في هذا المجال سيعمل على تغيير معادلة التميز العلمي وسيساهم في تحسين ترتيب الجامعة الجزائرية في التصنيف العالمي للجامعات.