شرع الاتحاد الدولي لكرة القدم في فتح تحقيقات تخص “الفساد” الذي يضرب الكرة الجزائرية منذ عدة سنوات، خاصة في ما يتعلق بترتيب نتائج مباريات البطولة وشراء ذمم الحكام والأطراف الفاعلة في هذا المجال، في ضربة قوية إلى مسؤولي كرة القدم في الجزائر ومصداقية الهيئات الكروية وفي مقدمتها الاتحاد الجزائري لكرة القدم (الفاف) برئاسة خير الدين زطشي والرابطة المحترفة لكرة القدم التي يقودها عبد الكريم مدوار منذ نهاية شهر جوان الماضي. كشف تقرير أعده موقع هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” عبر مراسله في الجزائر، عن حجم الفساد الذي طال كرة القدم في الجزائر، امتدادا إلى ما سبق أن كشفت عنه في وقت سابق وسائل إعلام محلية وفي مقدمتها “الشروق”، لكن هذه المرة فإن هذا الموضوع الشائك أخذ أبعادا أخرى، وأكثر جدية وحزما بعدما كشفت “بي بي سي” في التقرير أن الفيفا على علم بما يحدث من فساد في البطولة الجزائرية، على خلفية اطلاعه على التحقيق الذي قامت به الإذاعة البريطانية، التي نقلت تصريحا لمتحدث باسم الاتحاد الدولي قال فيه: “إن الفيفا يأخذ موضوع التلاعب بنتائج المباريات بأقصى قدر من الجدية، لأننا نؤمن بأن حماية نزاهة كرة القدم تأتي في قمة أولوياتنا”. وأشار المتحدث إلى أن الاتحاد الدولي “ينظر في الموضوع، ويقوم بجمع المعلومات الإضافية اللازمة”، مضيفا أن المعلومات التي كشفتها “بي بي سي” “قد أحيلت إلى هيئات ومكاتب الفيفا المعنية بموجب سياقاتنا المتبعة”. وأشار التقرير إلى أن هذه الهيئات والمكاتب تشمل مكتب التحقيقات الملحق بلجنة الأخلاقيات التابعة للاتحاد ولجنته الانضباطية. كما حث الاتحاد الدولي كل من لديه معلومات إضافية حول الموضوع أو أي موضوع آخر قد يقوّض نزاهة لعبة كرة القدم على الاتصال بموقع “بي كا أم أس” الذي أسسته الفيفا من أجل تسجيل الشكاوى. وبالعودة إلى تفاصيل التحقيق، فقد قامت “بي بي سي”، بإجرائه في مواسم 2015-2016 و2016-2017 و2017-2018. زطشي يتهرب من المسؤولية ونقلت “بي بي سي” تصريحات لرئيس الفاف خير الدين زطشي الذي تنصل من أي مسؤولية لمكتبه الحالي في ما يحدث من تجاوزات وفساد في البطولة، حيث قال ضمنيا بأن المسؤولية تقع على المكتب السابق الذي كان يترأسه محمد روراوة لسنوات طويلة، وقال: “المعلومات التي أوردتها بي بي سي تعود إلى زمن يسبق تولي المكتب الفدرالي الحالي المسؤولية”، وكان زطشي انتخب في مكان روراوة في جمعية عامة انتخابية عقدت في مارس من العام الماضي، وتابع: “تطهير كرة القدم يعد من أولويات الفريق الإداري الحالي”، وأضاف زطشي: “ميل الكرة الجزائرية إلى الاحتراف بلغ منحى بات يهدد وجود نوادينا وواقع كرة القدم- ملكة الرياضات- في بلادنا”. وقال زطشي مشيرا إلى الشهادات التي جمعتها “بي بي سي” إنه من واجب الاتحاد الجزائري “التحقق من صدق الادعاءات التي أدلى بها شهود مجهولون”. الفساد وصل نقطة اللارجوع.. وجاء في تقرير الإذاعة البريطانية، أن شغف الجزائريين بكرة القدم يتجاوز الحماس والثقافة والتاريخ. فهناك هوس من نوع آخر ينخر قلب كرة القدم الجزائرية، ونقل شهادة لأحد “المتلاعبين” بنتائج المباريات في الجزائر دون الكشف عن هويته، حيث قال: “من اليسير جدا لأي شخص أن يتلاعب بنتائج المباريات، فليس عليك إلا أن تفهم كيف يعمل النظام والحيل التي يمكنك استخدامها”. وأضاف التقرير يقول إن هذا الشخص- ومصادر أخرى غيره، منهم وسطاء ولاعبون سابقون وحاليون وحكام ومسؤولون في مجال كرة القدم وغيرهم ممن كانوا من المسؤولين عن الرشاوى والفساد وضحايا هذه الممارسات، الذين تحدثوا إلى ممثلي “بي بي سي” السرّيين في نطاق تحقيق دام لثلاث سنوات- إن فسادا منهجيا وبنيويا سمح له بأن يتفشى دون حسيب أو رقيب في كل مستويات كرة القدم في الجزائر. وكما عبر عن ذلك أحد كبار مسؤولي كرة القدم الجزائريين السابقين، فإن كرة القدم ليست “مجرد لعبة” في الجزائر. وذهب أحد المسؤولين السابقين في الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) إلى أبعد من ذلك، إذ قال: “قد تكون كرة القدم الجزائرية تعدت نقطة اللارجوع”. هكذا ينخر الفساد قلب الكرة الجزائرية… حسب المعلومات، التي حصلت “بي بي سي” عليها، أصبحت رشوة اللاعبين والمسؤولين في الجزائر أمرا مألوفا إلى الحد الذي أدى إلى إنشاء “قائمة أسعار” شبه رسمية تتفق عليها كل الأطراف ويُرجع إليها في تقرير المبالغ اللازمة لشراء ذمم اللاعبين والمسؤولين- أي فساد حسب الطلب- أخذا بنظر الاعتبار أهمية كل مباراة وسياقها، حيث سبق لرئيس اتحاد الشاوية عبد المجيد ياحي أن تحدث عن ذلك في العديد من تدخلاته في وسائل الإعلام، بل واعترف بتورطه بشكل صريح في مثل هذه الممارسات وتسبب له ذلك في العديد من المتاعب ومنها إيقافه مدى الحياة من ممارسة أي نشاط رياضي، قبل أن يرفع المكتب الفدرالي الحالي العقوبة عنه. ففي دوري الدرجة الأولى، على سبيل المثال، يقول التقرير بأن منح ضربة جزاء من جانب أحد الحكام “الفاسدين” يكلّف نحو 100 مليون سنتيم على الأقل وهو مبلغ كبير إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الحكام الدوليين في الجزائر لا يتقاضون إلا أقل من 10 بالمائة من هذا المبلغ شهريا. ويكلّف ترتيب تعادل بين فريقين ضعف هذا المبلغ، أما الفوز والنقاط الثلاث التي يجلبها فتكلف أكثر من 600 مليون سنتيم. وترتفع الأسعار مع اقتراب نهاية الموسم الكروي، ويمكن شراء حتى لقب بطولة الدوري أو منع فريق ما من الهبوط إلى الدرجات الدنيا. ولا يقتصر الفساد على دوريي الدرجة الأولى والثانية من كرة القدم الجزائرية فحسب، يقول التقرير، بل يصل حتى إلى الفرق الشبانية، حيث قال مدير أحد الفرق المحترفة: “الوضع في الدوريات الصغرى أشبه بالجحيم، فهناك عنف وفساد وكل الآفات الأخرى”. عندما تختلط السياسة بكرة القدم وكشف التقرير عن كون الجميع في هذا المجال يعرفون كيف تعمل مؤسسة “الفساد الكروي”، حيث قال أحد المسؤولين السابقين الكبار في الاتحاد الجزائري لكرة القدم: “نعرفهم (الفاسدين)، ولكن لا يجرؤ أحد على اتخاذ أي إجراء في حقهم”. وأضاف قائلا: “إنها مشكلة سياسية، وعندما يتدخل السياسيون في كرة القدم، ستكون تلك هي النهاية”. ولكن الإعلان عن هويات المتورطين في الفساد والتطرق إلى مناسبات دفعت فيها رشاوى بعينها تعد مسألة أخرى. وهذا هو السبب الذي دفع معدّي التحقيق لدى “بي بي سي” إلى الإصرار على احترام خصوصيتهم- فالحديث علنا كان سيعرض أولئك الذين يفشون الأسرار إلى مخاطر جمة. ونقل التقرير تصريح أحد المعلقين الكرويين الجزائريين البارزين، حيث قال بخصوص هذا الموضوع: “لا يوجد في الجزائر مكان للأبطال، إذ سيصبحون كلهم ضحايا”. إضافة إلى ذلك، هناك العديد من “أنصار الأندية الأثرياء” الذين يتورطون أحيانا في التلاعب بنتائج المباريات، وهي أمور يقومون بمناقشتها علنا في مواقع التواصل الاجتماعي. المنتخب الوطني وفقدان الهوية.. رغم الحديث المستمر عن ضرورة إيجاد سبل لمكافحة الفساد المستشري في الكرة الجزائرية، وقيام الهيئات الكروية وعلى رأسها الفاف في كل مرة بالإعلان عن شن “حرب” على هذا الفساد، إلا أن ذلك بقي “كلاما” فقط أو حبرا على ورق، خاصة أن مشروع بعث هيئة المراقبة المالية وتسيير الأندية بقي حبيس أدراج مكاتب الاتحاد. وقال وسطاء لإذاعة “بي بي سي” بأن “الفاسدين” ما زالوا ينشطون في مجال التلاعب بنتائج المباريات حتى خلال العام 2018. علاوة عن ذلك، ثمة مؤشرات على أن الوضع الكروي الحالي بدأ بالتأثير على أداء المنتخب الوطني الذي ما لبث يعتمد بدرجة كبيرة- وبشكل يثير لغطا داخل الجزائر- على اللاعبين الجزائريين الذين ولدوا وترعرعوا في فرنسا. فالمنتخب، الذي حقق أول فوز لمنتخب إفريقي في كأس العالم عندما فاز على منتخب ألمانيا الغربية، الحائز بطولة أوروبا في عام 1982، لم يفز بأي مباراة خاضها في كأس الأمم الإفريقية 2017 في الغابون، كما أخفق في التأهل لكأس العالم 2018 التي أقيمت في روسيا. ويقول تقرير “بي بي سي” بأنه ليس من المبالغة القول إن مستقبل كرة القدم في دولة كانت تعد واحدة من “القوى الكروية العظمى” في القارة الإفريقية، التي شهدت تأسيس أولى نواديها في القرن التاسع عشر، التي كان لاعبوها في مقدمة المناضلين من أجل الاستقلال، معرّض للخطر. وختم التقرير يقول ليس هذا نتيجة غياب المواهب الكروية بأي حال من الأحوال، بل هو نتيجة الفساد غير المعقول في المجال الكروي المحلي الذي بلغ حدودا غير معقولة، لينتهي الأمر في مكاتب تحقيقات الفيفا. م. علال (نقلا عن بي بي سي)