للجمعة الثامنة على التوالي، احتشد الملايين من الجزائريين في العاصمة وفي غيرها من المدن، للمطالبة برحيل الباءات الأربعة، رئيس الدولة، عبد القادر بن صالح، ورئيس المجلس الدستوري، الطيب بلعيز، والوزير الأول، نور الدين بدوي، بالإضافة إلى رئيس المجلس الشعبي الوطني، معاذ بوشارب.. كان هذا عنوان الجمعتين السابعة والثامنة.. إنها معضلة حقيقية تلك التي تعيشها البلاد هذه الأيام، برأي مراقبين،.. والسبب التباين الحاصل في قراءة المخرج من الأزمة.. بمعنى: هل سيستمر العمل بالمخرج الدستوري، الذي جاء بعبد القادر بن صالح إلى رئاسة الدولة، وفق ما تصر عليه المؤسسة العسكرية إلى حد الآن؟ أم يتعين الإقلاع عنه والانخراط في الحل السياسي الذي يطالب به الحراك الشعبي؟ وبينما تقف اليوم؛ الجزائر في مفترق الطرق، بسبب “الألغام الموقوتة” التي تركها الرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة في مؤسسات الدولة، تأتي الأحداث التي تعيشها دولة السودان الشقيقة، لتوضح للجزائريين بعض ملامح الحل غير الدستوري للأزمة، والذي أحدث جلبة في الداخل والخارج، في وقت كان يجب أن يترك هذا البلد المنهك، يبحث عن حلول لأزمته في هدوء بعيدا عن التشويش ومحاولة فرض إملاءات خارجية. “انقلاب” السودان.. العبرة والمخاطر وكما هو معلوم، فالحراك الشعبي في السودان الذي بدأ قبل الحراك في الجزائر، انتهى بتشكيل مجلس عسكري بعد الإطاحة بالرئيس السابق، الفريق عمر البشير، لكنه لم يزد الأزمة إلا تعقيدا، لأن من هم في شوارع السودان، رفضوا استيلاء العسكر على السلطة، وقرروا الاستمرار في الحراك، ما أعاد الأزمة إلى مربع البداية. المؤسسة العسكرية وانطلاقا من تجربة التسعينيات، يبدو أنها لا تفكر إطلاقا في الانخراط في مثل هذه الحلول، فالجيش أبان إلى حد الآن عن موقف ثابت، مفاده أن أفضل مخرج للأزمة الراهنة هو الاحتكام إلى نصوص الدستور، خوفا من سقوط البلاد في مستنقع فراغ دستوري، قد يصعب ملؤه مهما كانت الحلول التي يمكن الاستنجاد بها. هذا ما يمكن استشفافه من خطاب نائب وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش، الفريق أحمد قايد صالح، بعد استقالة الرئيس السابق، وهو الموقف الذي يبدو أنه لم يعجب بعض الأطراف التي لها حساباتها لكن خارج الدستور(..)، في وقت يتمسك الحراك بتطبيق المادين 7 و8 من الدستور. وتنص المادة السابعة من الدستور على أن: “الشعب مصدر كل سلطة. السيادة الوطنية ملك للشعب وحده”، أما المادة الثامنة فتنص على: “السلطة التأسيسية ملك للشعب. يمارس الشعب سيادته بواسطة المؤسسات الدستورية التي يختارها. يمارس الشعب هذه السيادة أيضا عن طريق الاستفتاء وبواسطة ممثليه المنتخبين. لرئيس الجمهورية أن يلتجئ إلى إرادة الشعب مباشرة”. الذين يطالبون بإسقاط الباءات الأربعة، ينطلقون من المادة السابعة، التي تعطي للشعب حق تقرير مصير من يحكمه، وما دام أن الملايين قد خرجوا في أكثر من جمعة، فإن الاستمرار في النهج الدستوري بمفرده حسب ملاحظين، لم يعد مبررا، لأن قرار الشعب فوق الدستور، الذي صوت عليه الشعب في استفتاء.. فهو يعلقه أو يلغيه متى أراد. لكن في الجهة المقابلة، يبدو تشبّث المؤسسة العسكرية بالحل الدستوري الذي يحافظ على استمرار مؤسسات الدولة، أمرا بالغ الأهمية، ليس فقط من حيث وجاهته الدستورية، وإنما أيضا من حيث محاذيره السياسية المفتوحة على كل الاحتمالات. هل هناك مخرج آمن في تجاوز الدستور؟ فسقف المطالب الشعبية ارتفع بشكل لامس عنان السماء، منذ أن تجند الملايين للخروج إلى الشارع، وقد زاد من ارتفاع هذا السقف، تجاوز الهدف الأول الذي خرجوا من أجله، وهو إسقاط العهدة الخامسة للرئيس السابق، إلى عدم إكماله حتى العهدة الرابعة، التي كانت مسكوتا عنها قبل بدء “الحراك”. ومن شأن هذا المعطى أن يزيد من تأزيم الوضع، في حال اقترن بفراغ في مؤسسات الدولة.. ويتساءل مراقبون أنه لو تم الذهاب إلى التجسيد الحرفي للمادة السابعة من الدستور، وتم إبعاد كل من بن صالح وبلعيز وبدوي، وبوشارب، فما هي الآليات التي يحتكم إليها في اختيار الأشخاص الذين سيخلفون على الأقل بن صالح في رئاسة الدولة؟ من الصعوبة بمكان حصول توافق حول الشخصية أو الشخصيات التي تملأ منصب الرئيس في حال إسقاط بن صالح، طالما ليس هناك آليات متفق عليها، يحتكم إليها في اختيار خليفته، وعندها يصبح كل طرف يغني على ليلاه، كما يقول المثل العربي السائر، وهذا يعني من بين ما يعنيه، استمرار غياب التوافق السياسي حول من يقود المرحلة الانتقالية، ومن ثم استمرار نزول الجزائريين إلى الشوارع كل جمعة، وقد يصبح الاحتجاج يوميا، وهو وضع لا يتمنى أحد الوصول إليه. هذا السيناريو كان حذر منه قائد الجيش في آخر خطاب له، عندما قال: “سجلنا للأسف، ظهور محاولات لبعض الأطراف الأجنبية، انطلاقا من خلفياتها التاريخية مع بلادنا، لدفع بعض الأشخاص إلى واجهة المشهد الحالي وفرضهم كممثلين عن الشعب تحسبا لقيادة المرحلة الانتقالية، وتنفيذ مخططاتهم الرامية إلى ضرب استقرار البلاد وزرع الفتنة بين أبناء الشعب الواحد، من خلال رفع شعارات تعجيزية ترمي إلى الدفع بالبلاد إلى الفراغ الدستوري وهدم مؤسسات الدولة، بل كان هدفهم الوصول إلى إعلان الحالة الاستثنائية، وهو ما رفضناه بشدة منذ بداية الأحداث، فمن غير المعقول تسيير المرحلة الانتقالية دون وجود مؤسسات تنظم وتشرف على هذه العملية، لما يترتب عن هذا الوضع من عواقب وخيمة من شأنها هدم ما تحقق، منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، من إنجازات ومكاسب تبقى مفخرة للأجيال”. ويتضح من خلال ما سبق، أن لكل طرح مبررات، غير أن محاذير الحل السياسي تبدو وخيمة في حال صعب على الجزائر تحقيق التوافق.