دأب كثيرٌ من أصحاب الأقلام المأجورة، الذين لا يكتبون إلا بإيعاز ومهماز، وينعقون بما لا يسمعون على إحداث القطيعة بين النهج الباديسي والنهج النوفمبري، فقالوا عن النهج الباديسي إنه “إيديولوجيا إصلاحية تحركها الفكرة الدينية”، وقالوا عن النهج النوفمبري إنه “إيديولوجيا تحريرية تحركها الفكرة الثورية”، وقد استطاع أصحاب هذه الأقلام المأجورة أن يجرُّوا إلى صفهم كثيرا من عديمي الفكر، واستطاع هؤلاء بدورهم أن يجرُّوا إلى صفهم كثيرا من الغوغاء والدهماء الذين آمنوا بهذا الهراء. وبناءً على هذا التصور الخاطئ، نشأت في المجتمع الجزائري فئتان: فئة تقدس النهج النوفمبري وتكفر بالنهج الباديسي، وفئة تقدس النهج الباديسي وتكفر بالنهج النوفمبري، وقد كنا في الحقيقة بحاجة إلى فئة ثالثة وسطية تؤمن بالنهج النوفمبري والنهج الباديسي معا، وتتعامل معهما على أنهما نهجٌ وطني واحد لأنهما يخرجان من مشكاة واحدة، قد يختلفان في الوسيلة ولكنهما يتَّحدان في الغاية. دُعَيتُ بمعية ثلة من الباحثين بمناسبة الاحتفال السنوي بيوم العلم إلى الندوة التي نظمتها إذاعة ميلة حول موضوع: “منظومة القيم ودورها في بناء الدولة النوفمبرية”، ولم يكن لي حينها متسعٌ من الوقت لتفصيل الرابطة الدينية والوطنية بين النهج الباديسي الإصلاحي وبين النهج النوفمبري الثوري، واكتفيت بالتأكيد على ضرورة تعزيز الرابطة، لأن القراءة المتمعنة للبيان التأسيسي وبيانات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الأخرى تلتقي من حيث الأهداف والغايات مع بيان أول نوفمبر 1954 في الحرص على تكريس السيادة الوطنية بكل عناصرها الإسلامية الجزائرية. يمكن لأي باحث عن حقيقة الرابطة الوطنية بين النهج الباديسي والنهج النوفمبري أن يطلع على الوثائق التاريخية لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي اهتمَّ بنشر جزء كبير منها أستاذُنا عمار طالبي في “آثار ابن باديس”، ومما يجب ذكره في هذا الصدد بالمختصر المفيد أنه في المراحل الأولى للثورة التحريرية المباركة لم تجد هذه الأخيرة مساندة حقيقية من الأحزاب والجمعيات الجزائرية الناشطة والعاملة في ذلك الوقت والتي آثرت كلها أو جلها سياسة الصمت والترقب، ولكن على خلاف ذلك بادرت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى الصدع بتأييدها المطلق للثورة، وجاء بيانُ مندوب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في القاهرة الشيخ الفضيل الورتيلاني يوم 3 نوفمبر 1954 ليدلل على هذا التأييد المطلق بنبرة قوية وصادقة مفعمة بالقيم الوطنية والإسلامية، وقد نشرت الجرائدُ المصرية وغيرها نص هذا البيان بعنوان: “إلى الثائرين الأبطال من أبناء الجزائر: اليوم حياة أو موت، بقاء أو فناء”، وقد جاء فيه: “حياكم الله أيها الثائرون الأبطال، وبارك في جهادكم وأمدَّكم بنصره وتوفيقه. وكتب ميِّتكم في الشهداء الأبرار، وحيَّكم في عباده الأحرار. لقد أثبتم بثورتكم المقدسة هذه عدة حقائق.الأولى أنكم سفَّهتم دعوى فرنسا المفترية التي تزعم أن الجزائر راضية مطمئنة فأريتموها أن الرضى بالاستعمار كفر، وأن الاطمئنان لحكمه ذلّ. وأن الثورة على ظلمها فرض.الثانية أنكم شددتم عضد إخوانكم المجاهدين في تونس ومراكش. وقويتم آمالهم في النصر، وثبَّتم عزائمهم في النضال. الثالثة أنكم وصلتم بثورتكم هذه حلقات الجهاد ضد المعتدين الظالمين الذي كان طبيعة دائمة في الجزائر منذ كان. وكشفتم عن حقيقة رائعة في إباء الضيم والموت في سبيل العزة، وجلوتم عن نفسيته الجبارة ما علق بها في السنين الأخيرة من صداء الفتور.الرابعة أنكم بيَّضتم وجوها، وأقررتم عيونا، وسررتم نفوسا، مملوءة بحبكم، معجبة بصفحاتكم القديمة في الجهاد، رائية لحالتكم الحاضرة”. ويواصل الشيخ الفضيل الورتيلاني قوله: “أيها المجاهدون الأحرار، إن فرنسا لم تترك لا دينا ولا دنيا.. اعلموا أن الجهاد للخلاص من هذا الاستعباد، قد أصبح اليوم واجبا عاما مقدسا، فرضه عليكم دينُكم، وفرضته قوميتكم، وفرضته رجولتكم، وفرضه ظلمُ الاستعمار الغاشم الذي شملكم، ثم فرضته أخيرا مصلحة بقائكم. لأنكم اليوم أمام أمرين: إما الحياة أو الموت، إما بقاءٌ كريم أو فناء شريف”. من يقرأ هذا البيان لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين على لسان مندوبها في القاهرة الشيخ الفضيل الورتيلاني وبيان أول نوفمبر يقف بلا شك على وحدة الغاية بين الثورة التحريرية وبين الجمعية الإصلاحية، فقد أثبت البيانان أن رفض الاستعمار واجبٌ مقدس، يقول الشيخ الفضيل الورتيلاني : “.. الأولى أنكم سفَّهتم دعوى فرنسا المفترية التي تزعم أن الجزائر راضية مطمئنة فأريتموها أن الرضى بالاستعمار كفر”. وشدد بيان أول نوفمبر من جهته على الانتماء الجزائري العربي الإسلامي إذ أن من أهداف النضال الثوري الذي أعلنته جبهة التحرير الوطني: “الاعتراف بالجنسية الجزائرية بطريقة علنية ورسمية، ملغية بذلك كل الأقاويل والقرارات والقوانين التي تجعل من الجزائر أرضا فرنسية رغم التاريخ والجغرافيا واللغة والدين والعادات للشعب الجزائري”. إن هذه العبارة تتفق من حيث غاياتها في بالتمسك بثوابت التاريخ والجغرافيا واللغة والدين والعادات مع مقولة الشيخ عبد الحميد بن باديس:”.. ثم إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية، ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت، بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد في أخلاقها، وفي تقاليدها وفي عنصرها وفي دينها. لا تريد أن تندمج ولها وطنٌ معين محدود هو الوطن الجزائري بحدوده المعروفة، الذي يشرف على إدارته العليا السيد الحاكم العام المعين من قبل الدولة الفرنسية”. ويلتقي بيان جمعية العلماء المسلمين الجزائريين مع بيان أول نوفمبر في التأكيد على التلاحم والإخاء المغاربي في إطار مبدأ وحدة شمال إفريقيا الذي تعهَّد المناضلون الجزائريون في جبهة التحرير الوطني بتحقيقه والنضال من أجله. يقول الشيخ الفضيل الورتيلاني: “.. الثانية أنكم شددتم عضد إخوانكم المجاهدين في تونس ومراكش. وقويتم آمالهم في النصر، وثبتم عزائمهم في النضال”. وفي هذا المعنى ووفق هذا المسعى أكد بيان أول نوفمبر “ضرورة تحقيق وحدة شمال إفريقيا في داخل إطارها الطبيعي العربي والإسلامي”. بالإضافة إلى كل ما سبق، فإن ما يؤكد وحدة الغاية بين النهج الباديسي وبين النهج النوفمبري هو الشعار الافتتاحي لجريدة “المنتقد” (الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء)، فنصرة الإسلام ونصرة الوطن عقيدة مشتركة آمن بها المناضلون في جبهة التحرير الوطني، كما آمن بها رجالات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. إن هذه العقيدة المشتركة تلخص قوة الرابط الديني والوطني عند مفجري الثورة ومؤسسي الجمعية. أقول في النهاية: ليس منا من يفرِّق بين النهج النوفمبري والنهج الباديسي من حيث وحدة الغاية، وليس منا من يفرِّق بين مفجري الثورة ومؤسسي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وليس منا من يفرِّق بين الشيخ ابن باديس والعقيد عميروش، وبين الشيخ العقبي والعربي بن مهيدي، فكل هؤلاء كانوا على ثغر من ثغور الجزائر اختلفت وسائلهم ولكن اتحدت غاياتهم.