حياة كل إنسان هي مشروع كتاب يمكن أن يطبع ويقرأ لو يجد من يكتبه ويستمطر سحب ذاكرته في استرسال متلاحق، ويجمع ماءها المتفرق على سنوات عمره. وما يلاحظ هو أن الرجال أجرأ على كتابة سيرهم وتدوين مذكراتهم من النساء لأسباب نفسية واجتماعية لم تتمكن المرأة، وخاصة في عالمنا العربي، من التحرر من قيودها، ورميها. فالمرأة، عادة، ترفض سحب ستائر الحجب عن أسرار مسيرتها. إلى وقت قريب، كان رجال النخبة في الجزائر والمؤثرون في حياة المجتمع، وخاصة من فئة السياسيين، منصرفين تماما عن هذا العمل؛ لأن النظرة الاحتكارية الشمولية لم تكن تعترف سوى بالتاريخ الرسمي المُملى والموجه. ولكن، مع الانفتاح الديمقراطي تعززت الساحة الثقافية بسيل معتبر من المذكرات الشخصية والسير الذاتية ألهب بعضها سعار الجدل لما تعرضت له من أحداث ساخنة وما رافقها من اجتهاد شخصي في تفسيرها. وفي المقابل، فإن هناك مذكرات أملاها أو كتبها أصحابها قبل أن يفارقوا الحياة، ولكنها ماتزال محجوبة عن أعين القراء لأسباب مجهولة، ومنها مذكرات المناضل والأستاذ الكبير عبد الحميد مهري ومذكرات المجاهد لخضر بن طوبال أحد قادة الولاية التاريخية الثانية؟. فمتى يرفع عنها الحظر ويفرج عن صفحاتها؟. يلاحظ أن أغلب الكتابات في هذا الجانب يغلب عليها الأسلوب السردي البسيط والأسلوب التسجيلي التقريري الانتقائي الذي يتكتم عن بعض الحقائق، ويتجنب ذكر الأسماء أحيانا. ولم ترق إلى المستوى الأكاديمي المنمق الذي يقلب الأحداث، ويدقق النظر في جذورها وخلفياتها، ولا يبخل في فحص النتائج التي آلت إليها، ونقدها نقدا علميا متزنا يبتعد عن التشخيص والتشهير والإساءة. دأب المجاهد الرائد عمّار ملاح، منذ سنوات، وبجهد شخصي مشكور على نشر عدة كتب تخص الثورة التحريرية المجيدة في الولاية التاريخية الأولى (ولاية الأوراس). ولا يفهم اجتهاده إلا في إطار من يحاول أن يسد فراغا مقلقا، وأن يخلف للأجيال مادة موثقة عن صنيع آبائهم وأجدادهم الذين قضوا على حلم استعمار استيطاني متسلط يملك أذرعا كالأخطبوط. وما يلاحظ عن هذه الكتابات التي تلقى القبول والاستحسان هو أن صاحبها يركز على جمع المادة التاريخية المكثفة. ويعني ذلك، أنه يمكن للقارئ أن يصادف في بعض كتبه مواضيع متفرقة تلتقي كلها حول خيط جامع هو الثورة التحريرية، وكأن الهدف الذي سطره ومنحه الأولوية، ويسعى جادا إلى بلوغه هو جمع الشهادات والروايات. يكتب المجاهد الرائد عمّار ملاح بصدق بالغ، وبعفوية مطلقة. ويعارك الأسطر بتلقائية ثابتة، ويميل إلى السرد أكثر من جنوحه إلى التحليل والتعقيب، ويركز على الوقائع المجردة كما حدثت في آوانها بقدر ما تسعفه به ذاكرته، ويوظف لغة بسيطة وسهلة حتى يكون كلامه مفهوما من طرف كل أطياف قرائه، ولا يجري خلف وَبْش الكلام والإطالة والتمطيط واللف والدوران، ولا يحبذ الاستغراق في التفصيل والمتابعة. ولكنه، يتوقف أحيانا، عند أمور متناهية في الدقة والصغر مما يعني أنه وُهب ذاكرة قوية وذكورة لم تتعبها سنوات العمر، ولم تقو محن الأيام ومتاعب الدهر من تبديد طاقتها التخزينية وإخماد حيويتها، أو زرع الاضطراب فيها. ولد المجاهد محمد الصالح ملاّح المعروف باسم: عمّار ملاح في بدايات سنة 1938م في منطقة جبل بوعريف الذي يطوّق جزءا من مدينة باتنة في جهتيها الشرقية والشمالية. وفي صغره، انتسب إلى أحد الكتاتيب، وحفظ فيه ربع القرآن الكريم. وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، انتقل والده بأسرته إلى بلدة المعذر بعد أن اشترى سكنا متواضعا جدد بنيانه فيما بعد. وتعرف هذه البلدة السفحية الصغيرة وجودا مكثفا للمعمرين المستوطنين الذين يقطنون مساكن أرقى طرازا من حيث البناء وتأثيثا مقارنة بمساكن الجزائريين البائسين. وفي بلدة المعذر الوديعة، توفرت له فرصة المزاوجة بين تلقي تعليمين متنافرين في نفس الفترة، فقد انضم إلى مدرسة تتبع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والتحق بمدرسة الأهالي التي تشرف عليها الإدارة الفرنسية. ومما يرويه عن صوّر التمييز والتحيز في المعاملة بين فئات التلاميذ من قبل معلمته في المدرسة الأخيرة هو أنها كانت ترسل كل تلميذ جزائري تجاوز نمو شعر رأسه الحد الذي ترتضيه إلى مدير المدرسة، وهو زوجها، لقصه بآلة الحلاقة قصا مشوّها ينهيه برسم خطين متعامدين كالصليب على رأس التلميذ المعاقب؟؟. ولم تكن هذه العقوبة المقززة والمثيرة للاشمئزاز تطبق على زملائهم من التلاميذ الأوروبيين الذين كانوا يتباهون بشعورهم الطويلة والمتدلية على أكتافهم. وبفضل اجتهاده، تمكن من طي مرحلة تعليمه الابتدائي والحصول على شهادتي اختتام الدراسة في المدرستين معا وبجدارة. في سنة 1952م، انتقل إلى مدينة قسنطينة، وقضى سنة واحدة في مدرسة “الكتانية” العريقة التي كنت تعرف باسم: “مدرسة حزب الشعب”،. وبعدئذ، شارك في امتحان الانتقاء للدخول إلى الثانوية الفرنسية الإسلامية. وكان من بين الناجحين القلائل والمقبولين لمواصلة الدراسة في السنة الثانية ثانوي في الشعبة العصرية. لم يخف الطالب عمار ملاح قصر ذات يد والده ووقوفه عاجزا أمام تلبية طلب اقتناء لوازم ابنه للالتحاق بالنظام الداخلي في هذه المؤسسة المتميزة وقتذاك، وهي طواقم من الكسوة وأفرشة مشروطة على كل طالب من طلابها. ولم يجد مفرا من السفر إلى أسواق قسنطينة الشعبية في رحبة الصوف ورحبة الجمال لتجهيز ابنه؛ لأن الأسعار بها منخفضة نسبيا مقارنة بأسعار نظائرها في المحلات الأخرى. بعد ثلاث سنوات من الجلوس متعلما في جو الاجتهاد والتنافس الشريف، حلّ إضراب الطلبة الذي دعا إليه الإتحاد العام للطلبة الجزائريين، وجاء من يعلمهم بقرار التوقف عن الدراسة. وتلبية لواجب نداء الوطن، غادر مقاعد التعلم ككل زملائه الذين كان من بينهم الشهيد حيحي المكي الذي تحمل الثانوية اسمه اليوم. باءت محاولات الشاب عمار ملاح المتكررة للالتحاق بالمجاهدين في جبال الأوراس بالفشل في البداية. ولكن بعد مدة قصيرة، رفعت من أمامه الموانع وتحققت رغبته. ونظرا لأن هذه اللحظة كانت فاصلة في تغيير منحى حياته، فلم تسقط من بطن ذاكرته، ودوّنها بقلمه قائلا: (كن نلعب كرة القدم، فاتصل بي الحسن أخ الحاج عبد المجيد عبد الصمد، وأخبرني في سرية أن أخاه يدعوني للالتحاق بجيش التحرير الوطني. وفي الحين، ذهبت إلى منزلنا، وأخذت معي قشابية وحبلا نظرا لأن قرية تاحمامت “المعذر” كانت مطوقة بالأسلاك الشائكة وتحت رقابة عساكر العدو. وكان الحبل الذي أحمله هو بيان تمويهي لجلب الحطب… وكان لي أول إتصل بالمجاهدين: الحاج عبد الصمد عبد المجيد وعمي عمر العايب ونجاعي المكنى ب”أوداي” في قابل جبل بوعريف بدشرة المساعيد… ولأول مرة أرى المجاهدين الثوار بسلاحهم ولباسهم ومراكزهم) (ص:15). لم يكن عمر المجاهد عمار ملاح يتجاوز ثماني عشرة سنة ساعة تجنيده. واشتغل في البدء كاتبا عاما مع عدة مسؤولين عسكريين. وبعد ترفيعه إلى رتبة عريف أول، عين مسؤولا للاتصال بالقسمة الثالثة الشاسعة. لم يتأخر المجاهد عمّار ملاح من المشاركة الميدانية ومقارعة العدو مع إخوانه المجاهدين في ساحات الوغى من خلال نصب الكمائن أو المواجهة في المعارك. وفي هذا الباب يذكر ما يلي: (في صيف وشاء 1957م، جرت معركتان في جبل بوعريف، الأولى بعين الخيّان جنوب قرية تاحمامت وظهر جبل بوعريف، والثانية في زاوية عائلة عبد الصمد، قابل جبل بوعريف، شارك فيها الملازم العسكري الحاج عبد المجيد عبد الصمد وفرقة المساعد لخضر القنطري. وشارك في المعركة الأولى الضابط يوسف اليعلاوي والضابط الحاج عبد المجيد عبد الصمد…) (ص:27). أصيب المجاهد عمّر ملاح في الثاني والعشرين أفريل 1959م بجروح في بطنه إثر كمين ليلي نصبه العدو ردّا على كمين باغت به المجاهدون ضابطا عسكريا وورتلا من عساكره الذين يتبعون قرية سيدي معنصر. وفي هذا الكمين أصيب أيضا قاضي الناحية يوسف حسيب. ويذكر صاحب المذكرات أن نجاته من الاستشهاد أو الوقوع في الأسر في هذه الواقعة تمت بفضل الله على يد المجاهد العريف العسكري شريف بوزيد الذي التقطه بعد سقوطه، وحمله مع سلاحه وراح يهرول حتى أبعده عن مكان الكمين. ثم وجد المساعدة اللطيفة من طرف آخرين منهم المجاهد شعبان حبرة. ولقي حسن التمريض والمتابعة اليومية من طرف ممرض مؤهل لمدة شهر كامل حتى التأمت جراحاته، وشفيت عن آخرها. ارتقى المجاهد عمار ملاح في سلم الرتب العسكرية واعتلى المناصب القيادية بفضل التزامه وانضباطه وكسبه لاحترام مسؤوليه المباشرين. ففي سنة 1960م، عين مسؤولا سياسيا لناحية بوعريف برتبة ملازم أول. وفي السنة التي تلتها، تبوأ قيادة نفس الناحية بعد ترفيعه إلى رتبة ملازم ثان. وما هي سوى شهور قليلة حتى عين على رأس قيادة المنطقة الثانية من الولاية الأولى وعلى كتفه نيشان ضابط أول. وفي آواخر سنة 1961م، أصبح من بين قادة الولاية الأولى برتبة ضابط ثان. ونال الترقية الأخيرة في سنة 1962م، وهي رتبة صاغ أول مع الاحتفاظ بالعضوية في قيادة الولاية الأولى التي كان يقف على قمة هرمها الصاغ الثاني “العقيد” الطاهر الزبيري.