لا تفتح مختبرات صناعة القرار السياسي أبوابها الموصدة لأي كان، مكان سري لا يكشف عن محتواه، وتجارب اختباراته لا يقوى على إدراكها عقلٌ طبيعي، اجتهادات وآراء وأفكار تتشكل في أنبوبة اختبار، لتؤلف رؤية استشرافية بغضِّ النظر عن مضامينها، تكون قانونا مفصَّلا لعصر جديد، كذلك يفعل المنظرون قبل الإعلان عن الحضور الأمريكي الكوني العابث بقواعد السلام المختل في قارات العالم أجمع. تعتمد مختبرات صناعة القرار السياسي على أفكار نظرية ابتدعها أصحابها قد تكون شطحاتٍ فكرية أو أحلاما شيطانية توقظ العقل النازع نحو فرض هيمنته، قد تصبُّ في مركز اتخاذ القرار مباشرة، وقد يصب بعضها الآخر فيما يسمى ب”مركز إثارة العواصف”. العاصفة حدثٌ لقانون طبيعي، أثارها اختبار لما تتمخض عنه من نتائج ينتظرها المفكرون الراغبون في مساحات أوسع من الحرية لإنشاء الأرضية المناسِبة لتنفيذ القرار السياسي المتصف بصفة الاستشراف “المستقبلي”. و”مركز إثارة العواصف” معنيٌّ هذه المرة بالكشف عما يدور داخل العقل الأمريكي من رؤى وخيالات واختلاق أكاذيب تقترب من الواقع لتجسيد معنى الحضور الأمريكي في كوكب الأرض، وكيفية تصور أمريكا لنفسها في مدار ما يجري في عالم اليوم. صنَّاع القرار العاكفون في مواقعهم المختبرية لا ينفكون عن الاشتغال على إيجاد وضع استراتيجي كوني مهيمن تنفرد به الولاياتالمتحدةالأمريكية دون غيرها. التزمت الولاياتالمتحدةالأمريكية موقع المتفرج وهي ترى أوروبا والاتحاد السوفيتي “سابقا” يحترقان بنيران أدولف هتلر في السنوات الأولى للحرب العالمية الثانية، وعجزا عن صد جحافله العسكرية التي تمركزت في كبريات مدنهما، ولم تتدخل إلا بعد الاقتراب من انهيارهما، لتخرج هي المنتصر القويّ الأوحد في عالم منهار. “فرنسيس فوكوياما” المفكر الياباني الأصل الأمريكي الجنسية، كان في عقود مضت صانع القرار الراسخ في البيت الأبيض، بنى صرحه الفكري على أنقاض أعمدة فكر هنري كيسنجر ورؤى برجنسكي، ترى فيه أمريكا مفكرا من الطراز الأول ففتحت أمامه “مراكز إثارة العواصف” وتحمَّل القسط الأوفر من بناء الإستراتيجية الكونية الأمريكية الحديثة. لقد أطلق “فوكوياما” قبل عقود قريبة من الزمن عاصفة الانتصار النهائي لليبرالية، مدعيا أنّ تطور البشرية الإيديولوجي قد وصل إلى نهايته ومجيء النصر النهائي للديمقراطية الغربية كشكل مطلق للسلطة. وجاءت “إثارة العاصفة” التي أرادتها أمريكا اختبارا لأفكار جديدة في مقالة كتبها “فوكوياما” في مجلة “ذي ناشينال انتريست” الأمريكية عام 1989 عن انهيار الإيديولوجية الماركسية في تطبيقاتها العملية التي تقوَّضت الواحدة تلوى الأخرى في أوروبا الشرقية، فكانت المقالة التي أثارت جدلا عالميا واسعا بمثابة التمهيد النفسي لانهيار الاتحاد السوفياتي وحصر ردود الأفعال الممكنة بغية السيطرة عليها مستقبلا. ذلك هو نتاج مؤثر من نتاجات “مركز إثارة العواصف” الممتد في مواقع مختبرات صناعة القرار في الولاياتالمتحدةالأمريكية، فقد رأى “فوكوياما” أن هذا الحدث التاريخي بمثابة انتصار لليبرالية بصيغتها الغربية، وأن انتصار الغرب قد نتج بعد فشل جميع الخيارات الأخرى بدلا عن الليبرالية، فما أصاب الكتلة الشيوعية لا يعني انتهاء الحرب الباردة فحسب بل نهاية التاريخ كتاريخ. ويؤكد المفكر الياباني الأمريكي بوضوح لا تشوبه شائبة أن الليبرالية تعني الآن نهاية التاريخ، فليس هناك من تناقضات أساسية في حياة الإنسان يصعب حلها في أطر الليبرالية الحديثة التي يراها إرثا مشتركا للبشرية نابعا من تاريخ الفكر البشري. “فوكوياما” أعاننا كثيرا على تلمُّس ما يجري داخل العقل الغربي، لاسيما العقل الأمريكي، ويمهِّد لنا الطريق لمعرفة الخطوة الراهنة بل المقبلة أيضا لإستراتيجيته التي يعدّها خيارَ النظام الوحيد الذي بقي أمام البشرية جمعاء. فوكوياما هو المتنبئ الذي لا تمنعه رؤاه الاستشرافية من العودة إلى الوراء لتحديد أوجه التحديات التي جابهتها الليبرالية على امتداد قرن من الزمن.. فيحصر هذه التحديات في قوتين: أولا: الفاشية والنازية ثانيا: الشيوعية.. الماركسية فقد اعتبرت الفاشية المنهارة أن الضعف السياسي والمادية والانحراف وانعدام الشعور المشترك في الغرب، هو التناقض الأساسي للمجتمعات الليبرالية الذي لا يمكن إزالته إلا عند قيام دولة قوية تخلق “منظومة شعبية” معتمدة على عامل التلاحم القومي. أما الشيوعية بفكرها الماركسي، اللينيني فقد شكلت التحدي الأكثر خطورة؛ فكارل ماركس الذي استخدم لغة هيغل أوضح أن المجتمع الليبرالي يحوي في داخله تناقضا أساسيا غير قادر على تصفيته وهو التناقض بين الرأسمال والعمل. ويعترف “فوكوياما” أن التناقض بين الرأسمال والعمل كان الاتهام الرئيسي الموجَّه لليبرالية، إلا أن الغرب بتحوُّلاته الحديثة قد حل المشاكل الطبقية من وجهة نظره، مستشهدا بأقوال للفيلسوف الروسي المهاجِر الكسندر أكوجيفي التي يعلن فيها أن مفهوم المساواة في الولاياتالمتحدةالأمريكية هو تحقيق للمجتمع اللاطبقي الذي بشّر به كارل ماركس، والمقصود هنا أن “فقر” الزنوج الأمريكان بشكل خاص لم يكن عاقبة محتومة لتطبيقات الليبرالية بل هو مجرّد تركة للعبودية والعنصرية بقيت طويلا بعد انهيارها الشكلي. إذا كان التاريخ انتهى من وجهة النظر الأمريكية، فماذا يعني مشهد الحروب والصراعات المنتشِرة في معظم أنحاء العالم، وهي حروبٌ أثارتها أمريكا نفسها، وغذّت تناميها، وخلقت أدواتها التي خرجت عن نطاق سيطرتها؟ الرئيس دونالد ترامب، ورث تركة رؤساء سبقوه، أثاروا غبار الخراب والدمار دون جدوى، وشردوا شعوبا تركت ديارها بحثا عن مكان آمن، وهو الساعي كما يبدو أمام عدسات الإعلام مثل “حمامة سلام” لطي صفحات الحروب، وإخفاء وجه المحارب الأشرس ممن سبقوه، حين يعيد حروب الدمار ودوافعها إلى أصولها التجارية، دون الحاجة إلى قوات “دائرة البنتاغون”.