ممّا لا شكّ فيه معرفيًّا أنّ ابن خلدون هو فيلسوف الحضارة ومنظّر علم الاجتماع الإسلامي، وممّا أشار إليه بعمق في مقدّمته هو حديثه عن البداوة السياسية الطاغية على السّلوك العربي مع الحكم، وعن التقاليد العربية العصيَّة عن منطق الدولة، وعن الثقافة المتمرِّدة على النظام وبناء الدولة ومركزية السّلطة، وأنه لا يمكن ترويض هذه الشخصية العصيّة بالعُرف والتقاليد والقانون، إذ لا سلطان على هذه النّفس العربية الأبيّة إلاّ بوازع الدّين، وهو وازعٌ ذاتيٌّ أثبت التاريخ قدرته السّحرية على ما عجزت عنه أيُّ قوّةٍ أخرى. وهو ما أكّده كذلك فيلسوف الحضارة في العصر الحديث الأستاذ مالك نبي (1905م- 1973م) في كتابه: شروط النهضة، في فصل: أثر الفكرة الدّينية في تكوين الحضارة، على اعتبار أنّ المنهج الذي يتناول واقعة الحضارة ليس على أساس الأحداث التي يسجلها التاريخ لنا، ولكن على أساس أنّها ظاهرةٌ يرشدنا التحليل إلى جوهرها ويهدينا إلى قانونها، أي إلى سُنّة الله تعالى فيها، والذي يستجلي لنا بوضوحٍ الدور الإيجابي والفعّال للفكرة الدّينية في بناء الإنسان ومنه في بناء الحضارة، وكيف يؤثّر الدّين في مجرى التاريخ. ذلك أنّ الإنسان إذا تجرّد من الدّين تحوّل إلى طبيعةٍ وحشية، يتلذّذ بالخروج عن الحكم، وعدم الانقياد للسياسة، والتنافس الشرس على الرئاسة، وعدم التسليم أو التنازل فيها للآخر، وهو منحى فوضوي لا يقيم دولة ولا يصنع نهضة ولا يبني حضارة. إلاّ أنّ الإنسان ليس كتلة مادّيةً من الشرّ المطلق، فهو ذو فطرةٍ أصيلةٍ ومعدنٍ نفيس، كما ورد في الحديث النبوي الشّريف: “كلُّ مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه..”، وهي الحقيقة المرتبطة بالنّزعة العميقة للخير وبالحاجة الفطرية للدّين في الإنسان، كما قال تعالى: “فطرت الله التي فطر النّاس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدّينُ القيّم..” (الرّوم: 30)، وخاصّة عندما تثبُت حقائق هذا الدّين من هدايات السّماء، وليست من رهبانية البشر وبِدَعِ المنحرفين. هذا جعل ابن خلدون يصل إلى حقيقةٍ راسخةٍ وهي أنّ الدّين هو المفتاح السّياسي للشخصيّة العربيّة، فقال في فصلٍ له: (في أنّ العرب لا يحصل لهم المُلك إلا بصبغةٍ دينيةٍ من نبوَّةٍ أو وَلايةٍ أو أثرٍ عظيمٍ من الدّين على الجملة). ذلك أن خُلُق التوحّش والغلظة والأنفة والكِبر والتنافس واختلاف الأهواء وتصادم المصالح وتناطح الإرادات لا يهذّبها إلا الدّين، بما تتهيأ له النفوس الأصيلة، الأميل إلى الخير والأبعد عن الشر. وهو ما يحلّ أزمة الشخصية المزدوجة لدى الإنسان عمومًا ولدى الإنسان العربي خصوصًا، ويفهم هذه الطبيعة البشرية في تعاملها مع الحكم والسّياسة، بين صعوبة الخضوع إلى منطق الدولة وسهولة الانصياع إلى سلطان الدّين. وهو ما يوفّر الحلّ الجوهري في إشكالية الإصلاح الحقيقي عن طريق مركزية الإسلام في تحقيق التغيير وإقامة الدولة وصناعة النّهضة وبناء الحضارة، إذ أنّ فهم التحوّلات واستشرافها، والإسهام الإرادي والواعي فيها، وإدراك المسارات الممكنة في التغيير والإصلاح يستدعي إثارة موضوع الهويّة والقيم، وأنّ الشّعب ليس مجرد مصدر السّلطة والشرعية السّياسية فقط، بل هو مصدر الهوية والقيم التأسيسية للدولة والحضارة. ذلك أنّ هويّة أيَّ فردٍ أو مجتمعٍ أو دولةٍ أو حضارة تتشكّل من مجموعةٍ من القيم التي يؤمن بها ويتمثّلها، وأنّ من عناصر القوّة لها هو مدى قوّة هذه القيم والتمسّك بها، بل وتصديرها، وأنّ الإفلاس القيمي والأخلاقي هو مؤشر انهيار الحضارة مهما تكدّس المنتَج المادي والتكنولوجي، كما قال تعالى، وهو يشير إلى المنتَج المادي والبعد الرّوحي والقيمي للحضارة: “أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ، كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً، وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا، وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.” (الرّوم:09). لا يزال أمامنا ذلك الأنموذج التطبيقي، وتلك التجربة الواقعية لسياسة الدّنيا بالدّين، إذ لم يكتفِ الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم -وهو يواجه تلك البداوة العربية وتلك الجاهلية المتجذّرة- في تبليغ الوحي نظريًّا وجملةً واحدة، بل حرص على إقامة الحجّة في تبليغه عمليًّا خلال 23 سنة من النبوّة، بمعاناتها في مرحلة صناعة الإنسان وفقه الجماعة في دار الأرقم بن أبي الأرقم في مكة، ثم في مرحلة فقه المجتمع وبناء الدولة في المدينة المنوّرة، ثم في مرحلة الفتوحات الإسلامية وصناعة الحضارة الممتدة في الزّمان والمكان في فترة الخلافة الرّاشدة. وما كان لتلك القبائل العربية والبربرية المتناحرة أن تخضع لمنطق السّياسة واستحقاقات الدولة دون سلطان الدّين وقيم السّماء، ولولا أنّ الإسلام غيّر المزاج الأخلاقي والثقافي للإنسان ما كان له أن يتحوّل من رعاة الإبل إلى قادة العالم، ولما كان للإنسانية فخرٌ بالحضارة الإسلامية كأطول حضارة إنسانية في التاريخ، والتي لا تزال عطاءاتُها وإشعاعاتُها تظلّل البشرية جمعاء، وأنّه ليس للمسلمين -عرَبًا وعجمًا- من تاريخٍ حضاريٍّ يُذكر إلاّ بمقدار دورهم في تاريخ الإسلام، وأنه لم يخرجهم من البداوة السياسية فقط، بل أخرجهم من خانة العيش على هامش التاريخ العالمي، وأدخلهم في الفاعلية الحضارية والمركزية الكونية. إلا أنّ جوهر الدّين ليس في جانبه التعبّدي الشعائري، بل في جانبه القيمي الأخلاقي، وهي صبغةُ الله الظاهرة على الإنسان، التي تثمِرها الحالة التعبّدية والمشاعر الإيمانية، كما قال تعالى: “صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة، ونحن له عابدون”. (البقرة: 138). ولذلك كانت الثمرة الأخلاقية للدّين هي الرّسالة الحقيقية للإسلام، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “إنما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق”، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يُمدَح بمثل ما مُدح بصبغته الأخلاقية، وأنه لم يستحق ذلك إلاّ لأنها معركتُه الحقيقية في التديّن الصحيح، فقال تعالى عن هذا الإنجاز السّلوكي: “وإنك لعلى خُلُق عظيم.” (القلم: 04)، وأنّ تديّن العبادات لا يُغني العبد من الله شيئًا إنْ خسِر تديّن المعاملات، فقد روى الإمام أحمد في مسنده: “أنّ امرأةً تُذكر من كثرة صلاتها وكثرة صيامها وكثرة صدقتها (العبادات)، إلاّ أنّها تؤذي جيرانها بلسانها (المعاملات)، فقال: هي في النّار..”، وأنّ العبادات إنما شُرّعت لتحقيق هذه الثمرة الأخلاقية، فقال تعالى عن الصلاة مثلاً: “وأقم الصّلاة (العبادات)، إنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر (تقويم السّلوك).” (العنكبوت: 45). كل ذلك يُحِيلنا على حقيقةٍ، وهي: مركزية القيم والأخلاق في التغيير والإصلاح. وكما أنّ الرّبيع العربي وثوراتِه الشّعبية السّلمية إنما انطلقت شرارتُه التغييرية ضدّ قيمٍ سياسيةٍ سلبيةٍ، مثل: الاستبداد والظّلم والفساد والتزوير والفشل، والتي لا يمكنها أن تعمّر طويلاً، إذ أنّها تحمل بذور سقوط أصحابها عاجلاً أم آجلاً، كما قال تعالى: “إنّ الله لا يصلح عمل المفسدين.” (يونس: 81)، وقوله: “.. فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.” (الروم:09). إلاّ أنّ هذه القيم السّلبية لا تنهزم إلاّ أمام مركزية القيم الإيجابية البديلة، مثل: الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان والكرامة الإنسانية، وهي لن تتحقّق إلاّ إذا كانت القوى الثورية والمنخرطون معها متشبّعين بها ثقافةً وسلوكًا، إذ لا يمكن تحقيق البناء السّياسي الديمقراطي إلاّ بثقافةٍ سياسيةٍ ديمقراطيةٍ حقيقية على مستوى الأفراد والأحزاب والمنظمات، قبل أن تنتقل تلقائيًّا إلى مستوى البناء المؤسّساتي للدولة والحضارة. وأنه لا يمكن أن تتلبّس الثورة الشّعبية بنفس الذّهنيات والسّلوكات والممارسات التي وقعت فيها الأنظمة التي ثارت ضدّها، مثل: العنف والإقصاء والصدامية والتطرف والعدمية.