الفساد ظاهرة قديمة في الأمم، ولا يكاد يخلو عصر من العصور من هذه الظاهرة، وهو سبب كلّ تخلّف يصيب الأمّة، وسبب لكلّ ما يتلوه من أمراض تطيح بأحلام أبناء الأمّة وشبابها، وربّما يكون الفساد أكبر المشكلات العالمية الّتي تجمع المؤسسات المحلية والدولية على اعتبارها العقبة الرئيسة أمام الإصلاح والتنمية والاستثمار الصحيح.. انتشر هذا الداء في كثير من دول العالم كانتشار النّار في الهشيم وخاصة في عالمنا العربي، وصار كمرضٍ سرطانيٍ يتفشّى في مختلف مجالات الحياة زارعًا الفشل والتّراجع الكبير في مسار التقدم والتنمية، ممّا ساهم في تراجع وتقهقر هذه البلدان وتخلّفها في مختلف المجالات. يعدّ ارتفاع مؤشر الفساد في أيّ مجتمع دلالة على تدنّي الرقابة الحكومية، وضعف القانون، وغياب التشريعات، وقد ينشط الفساد نتيجة لغياب المعايير والأسس التنظيمية والقانونية وتطبيقها، وسيادة مبدأ الفردية بما يؤدّي إلى استغلال الوظيفة العامة وموارد الدولة من أجل تحقيق مصالح فردية أو مجموعاتية على حساب الدور الأساسي للجهاز الحكومي بما يلغي مبدأ العدالة، وتكافؤ الفرص، والجدارة، والكفاءة، والنّزاهة.. ويعتبر الفساد آفة على المجتمع المعاصر وهو ظاهرة وبائية تدمّر النفس البشرية وتهدم القيم والأخلاق ناهيك عمّا يسبّبه من شلل في عملية البناء والتنمية الاقتصادية والّتي تنطوي على تدمير الاقتصاد. إنّ الآثار المدمّرة والنتائج السلبية لتفشّي هذه الظاهرة المقيتة تطال كلّ مقوّمات الحياة فتهدر الأموال والثروات والوقت والطاقات وتعرقل أداء المسؤوليات وإنجاز الوظائف والخدمات وبالتالي تشكّل منظومة تخريب وإفساد وتسبّب مزيدًا من التأخير في عملية التنمية والتقدم ليس على المستوى الاقتصادي والمالي فقط بل في الحقل السياسي والاجتماعي والثقافي والأخلاقي.. ولعلّ أخطر ما ينتج عن داء الفساد هو ذلك الخلل الّذي يُصيب أخلاقيات العمل والقيم الاجتماعية؛ الأمر الّذي يؤدّي إلى شيوع حالة ذهنية تسبغ على الفرد ما يبرّر الفساد والقيام به، حيث يغيّر الفساد من سلوك الفرد الّذي يمارسه، ويجرّه للتّعامل مع الآخرين بدافع المادية والمصلحة الذاتية، دون مراعاةٍ لقيم المجتمع والّتي تتطلّب منه النّظر للمصلحة العامة. إنّ آثاره المدمّرة على النّواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية تهدّد قوّة ومكانة أيّة دولة في العالم وتضعفها، فالفساد في جوهره حالة تفكّك تعتري المجتمع نتيجة فقدانه لسيادة القيم الجوهرية ولعدم احترام القانون وعدم تكريس مفهوم المواطنة. وإذا كانت أسباب الفساد المنتشر في العالم العربي كثيرة ومتشعبة، فإنّ من أهم تلك الأسباب حسب ما يرى المحلّلون والخبراء عدم وجود الحكم الصّالح (غياب الحكومة الرشيدة)، وتكريس وتعميم ثقافة الفساد في المجتمعات العربية بدل محاربته ومواجهته. وإنّ السبب الأهم والأبرز في شيوعه واجتياحه العالم العربي، هو ابتعاد هذه الدول عن مصدر النزاهة ومنبع الشفافية، ألا وهو الخوف من الله والرّقابة الذاتية المنبعثة من خشية الله تعالى وحده، وهي محاسبة المسلم لنفسه قبل أن يحاسبه أحد. والغريب في الأمر أنّه على الرغم من الخيرات الكثيرة الّتي أنعم الله تعالى بها على الدول العربية في جميع المجالات، وعلى الرغم من الموارد الطبيعية الّتي حباها الله لها، الّتي تفوق بكثيرٍ أو قليل تلك الدول الغربية المتقدمة، والّتي من المفترض أن تجعلها تلك الموارد والخيرات -لو استثمرت بشكلٍ صحيح ودون فساد- من أغنى دول العالم على الإطلاق، ناهيك عن الدّين الإسلامي الّذي تدين به غالبية تلك الشعوب، والّذي يحرّم على المسلم أكل لقمة من حرامٍ بل عن الملايين والمليارات، إلّا أنّنا نراها دائمًا في مقدمة الدول الأكثر فسادًا في العالم، وأقلّها غنًى ونزاهة وشفافية، وما ذاك إلّا بسبب الفساد الّذي ما زال ينخر فيها منذ عقود من الزّمان خلت. إنّ الفساد ظاهرة مركبة ومعقدة، تشمل الاختلالات الّتي تمس الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والقيمي والأخلاقي في المجتمع والّذي يحتاج إلى تضافر الجهود لمعالجته والتخلص منه. قال سبحانه: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} وقال عزّ وجلّ: {وَلَا تَعْثُوا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}. لقد كان منهج الإسلام واضحًا في محاربة الفساد مهما كان صغيرًا، إذ دعا إلى إقامة الخير ونبذ الشرّ والقضاء على المنكرات، وشرّع العقوبات المغلّظة الّتي تمنع الفساد وتسدّ الطّريق الّذي يمكن أن يصل منه المفسدون إلى الإفساد في الأرض. وتبدأ جهود الدول في العادة لمكافحة الفساد، برفع الوعي بضرورة محاربة الفساد والقضاء عليه، ومن ثمّ إجراء تغييرات بجعل الحكومات أقلّ قابلية للفساد، ثمّ التصدي لمشكلة الأنظمة الفاسدة، وتقوم مكافحة الفساد على طريقتين، الأولى على أساس العقاب والثانية على أساس الوقاية. ولمكافحة الفساد يجب تشديد العقاب على المخالفين والتّشهير بهم، واختيار الموظفين النزهاء من ذوي الكفاءات المهنية والاختصاص، وضرورة تفعيل دور منظمات المجتمع المدني في المساهمة بالحدّ من الفساد وبأشكاله المختلفة وإشراك المواطنين في تشخيص الأنظمة الفاسدة. وإنّ أحسن وسيلة لمحاربته تتمثل في إعداد خطة استراتيجية وطنية شاملة بمشاركة واسعة من قطاعات المجتمع وأطيافه لإعادة العدل بمختلف صوره في المجتمع، وإنهاء الظلم وأشكال الاستغلال عن طريق ربط المسؤولية بالمحاسبة وتحديث التشريعات وتغليظ العقوبات لردع كلّ من تسوّل له نفسه ممارسة أيّ شكل أو مظهر من مظاهر الفساد في الدولة والمجتمع. إنّ مفاهيم الخير والشرّ مرتبطة بالطبيعة الإنسانية وتبقى التوصية الأساسية هي الرقابة الذاتية الّتي تقوم عليها مبادئ الأخلاق، الرقابة الذاتية المنبعثة من خشية الله تعالى وحده. كما يتحتّم علينا التزامنا الدّيني والأخلاقي والوطني والإنساني أن نساهم جميعًا في الحدّ من ظاهرة الفساد الّتي تهدّد المجتمع والّتي توسّعت بشكل غير مسبوق وأضرّت المجتمع وروح المواطنة لدى أبنائه.