تم لأول مرة في تاريخ البشرية الإشارة إلى وجود فيروس وراء حالات الأنفلونزا، وذلك سنة 1918 من قبل الباحث "دوجاريك" بمعهد باستور بباريس. واستطاع البريطانيون عزله سنة 1933 "صنف أ"، وكانت هناك عديد المحاولات لصناعة اللقاح الملائم لكنها فشلت حتى جاء العالم "جوناس صالك" المدعم في أبحاثه من قبل السلطات العسكرية الأمريكية وقام بإنتاج أول لقاح تم استعماله على نطاق واسع عند الجنود الأمريكيين في أوروبا وكان ذلك سنة 1944 إذ اعتبر لقاحا فعالا فكانت المدة بين عزل الفيروس وإنتاج لقاح فعال وآمن أحد عشر عاما وبعدها صنعت باريس سنة 1947 لقاحا بإتّباع نفس التقنية والخطوات. ويعتبر الخبراء أنَّ عهد اللقاحات الحديثة قد بدأ بعد وباء 1968 الذي ظهر في هونغ كونغ واستمر إلى غاية 1970 مخلفا وفاة ما يربو عن مليون ضحيّة. وفي نفس السياق كانت حادثة وفاة عسكري أمريكي مجند ضمن فوجه بنيوجيرزي سنة 1976 إثر نوبة زكام حاد أصابه بالمكان المسمى "فورديكس" مجسِّدة لمسار اللقاحات في العالم إذ ثبت أن عينة الفيروس المسبب للوفاة مشابهة تماما لفيروس انفلونزا 1918 المدمر فاستعجلت السلطات الأمريكية الأمر وصنعت لقاحا بسرعة على أمل تلقيح ثمانين بالمائة من السكان، فكانت النتيجة مخيبة للآمال إذ تسبب هذا اللقاح في إصابة 500 شخص بالشلل ووفاة 25 مواطناً علما انه بعد إشاعة وباء فورديكس عبر نصف السكان عن قبول اللقاح، لكن بعد مباشرة العملية وتسجيل تلك الأعراض الجانبية الخطيرة لم يتم تلقيح سوى 22 بالمائة من السكان. وخلال وباء 2009 او ما يسمى بأنفلونزا الخنازير (الفيروس عبارة عن مزيج من جينات فيروس عصفوري وإنساني وخنزيري) تم تركيب اللقاح في ظرف قياسي لم يتعدَّ الستة أشهر إذ سجلت أول حالات الإصابة خلال شهر أفريل 2009 بالمكسيك وبدأت حملات التلقيح في شهر أكتوبر من نفس السنة وبعدها ظهرت "الناركوليبسي" في أوروبا عند بعض الاشخاص الذين تلقوا لقاح "بانديمريكس" المضاد لهذا الوباء وهو إعياء مفرط مصحوب بنوبات نوم لا تقاوَم تؤدي في بعض الحالات إلى الموت، وقبلها تم سحب لقاح مضاد للروتافيروس من الأسواق والمسبب لحالات تقيؤ وإسهال عند الرضع وذلك سنة 1999 لأنه تسبب في تعقيدات معوية خطيرة لم تتم ملاحظتها خلال التجارب الإكلينيكية وحدثت خلال التلقيح الشامل، مما يستدعي الحيطة والحذر عند التعامل مع اللقاحات الجديدة تفاديا للمفاجآت التي قد تكون غير سارة. إن تجربة العلماء مع الأنفلونزا "آش1 أن 1" ثرية جدا كونها تسببت في ثلاثة أوبئة فتاكة; الأنفلونزا الاسبانية 1918-1920 والآسيوية 1957- 1958 ووباء هونغ كونغ 1968- 1969 ممّا سمح للمجموعة العلمية بدراسة طبيعة ومسار الفيروس والاستعداد السنوي لمواجهته نظرا لظهوره الموسمي، فبعد هذه السنين تطورت أدوات مراقبة طفراته لدى المنظمة العالمية للصحة منذ نشأتها سنة 1948 والتي تدور حول العالم فتختار مكوِّنات اللقاح اللازم والملائم وعديد المخابر الصناعية أصبحت مؤهَّلة ومجهَّزة جيدا لإنتاج لقاحات فعالة وآمنة في وقت مقبول. أما في ما يخص فيروس كورونا فإن عائلته معروفة منذ الستينيات وهناك أربعة أنواع تصيب الإنسان وخاصة الأطفال الصغار والرضع إذ أن من 5 إلى 10 بالمائة من التهابات الجهاز التنفسي العلوي تتسبب فيها هذه الفيروسات. ونظرا لبساطة الإصابة بها وعدم تعقيدها فإن برامج إنتاج لقاحات خاصة بها لم تكن يوما في أجندة الخبراء والمخابر، وكانت الصدمة عند ظهور "السارس 1" سنة 2003 والمارس سنة 2012 وكلاهما من فصيلة عائلة كورونا، ونظرا للوفيات التي تسببا فيها تباعا 10 و37 بالمائة فإن جهودا معتبرة قد بُذلت لتطوير اللقاحات المناسبة ولكنها لم تثمر وأجهضت نظرا لكون السارس1 تلاشى نهائيا في غضون تسعة أشهر والمارس بقي محليا مرتبطا بالجِمال في السعودية وما جاورها مما جعل التجربة العالمية والخبرة في مجال عائلة كورونا محدودة جدا خاصة فيما يخص صناعة اللقاح المضاد لهذا الصنف من الفيروسات، الشيء الذي يجعل من الصعب جدا والمستحيل تسريع وتيرة إنتاج لقاح مضاد لكورونا وإن حدث ذلك فسوف يكون على حساب الأمن والنجاعة، إذ أن عدم تمكن العلماء من معرفة وافية كافية لخصائص كوفيد2 مع طبيعة مراحل إنتاج اللقاح الطويلة قد تجعل من امكانية توفير لقاح مكتمل في المدى القريب ضربا من المحال. هذا من الناحية العلمية التقنية المحضة، أما إذا اعتبرنا الحرب الباردة بين بعض الدول في إطار القطبية والتكتل والمصالح المادية وغيرها فإن إنتاج لقاح ما بسرعة وبتجاوز بعض الخطوات المهمة قد يصبح ورقة للمزايدات لا غير. إن ما قامت به مؤسسة "موديرنا" الأمريكية والتي قزمت مرحلة التجارب الحيوانية ودخلت المرحلتين معا؛ أي بدأت بالمرحل الأولى التي تخص الإنسان وأقحمت معها المرحلة ما قبل السريرية "الحيوانية" إذ من بين 45 مشاركا تلقوا اللقاح حدث لأربعة منهم أعراضٌ جانبية غير مرحب بها وسقط رجل آخر في حالة إغماء. والأخطر من ذلك ما يعتزم القيام به معهد "جينار" بجامعة اوكسفورد البريطانية من انتاج ملايين الجرعات خلال شهر سبتمبر قبل الحصول على نتائج التجارب السريرية الثلاث مما يجعل من هذا العمل مغامرة خطيرة ورهانا مشكوكا فيه ومشبوها. ويجدر بالعلماء اليوم الوصول الى جواب متفق عليه حول المناعة التي توفرها الإصابة الأولى بالفيروس، هل تأكد اليوم بما لا يدعو للشك أن شخصا أصيب بكورونا قد طوَّر مناعة حامية له من الإصابة؟ فإذا كانت الإجابة بنعم، فكم تكون مدة هذه الحماية؟ وإذا كان هناك غيابٌ للمناعة ما بعد العدوى الاولى فلماذا البحث عنها من خلال اللقاح إذن فهي غائبة طبيعيا فكيف تكون اصطناعيا؟ علما أن العلماء يعرفون ان اللقاحات من نوع "آرن. م" قد تحفز بقوة الجهاز المناعي مما يساعد العدوى على تنشيط مضادات الأجسام. على كل، فإن الحديث في أدبيات الفيروسات والمنشورات الخاصة بفيروس كورونا ورهانات اللقاحات المزمع تسويقها والتي تدور بين أمريكا وبريطانيا وروسيا ودول أخرى قد يطول، وخلاصة الموضوع هي أنه بالرغم من التطور العلمي والتكنولوجي المتوفرين فإن ذلك قد يساعد في إنتاج لقاح فعال وآمن في وقت قياسي لكن لن يكون ذلك قبل أشهر من الآن أو سنة لو سنتين على الأقل، لأن طريقة صنع أي لقاح تخضع لضوابط ومعايير علمية دقيقة تتطلب وقتا قد يفوق خمس سنوات في العادة، بيد أن ضخ إمكانات مالية ضخمة لهذا الغرض وإقبال مالا يقل عن 150 مخبرا على إيجاد اللقاح قد يقلص المدة إلى أقل من ذلك إذ نتوقع توفر لقاح يستجيب للمعايير العلمية؛ أي النجاعة والأمن، أواخر 2021 أو أزيد من ذلك. وعلى كل، فإن الجائحة تنتهي عندما يتحمل الكل مسؤولياته من خلال التعايش الوقائي مع الفيروس وليس بإنتاج اللقاح فقط والذي قد يطول الطريق إليه. وعلى هذا الأساس أدعو إلى التريّث وعدم التسرع في اقتناء أي لقاح يُنتَج استعجاليا في هذه الظروف حتى تتضح الرؤيا ويكون هناك إجماع أو شبه إجماع حول استيفاء اللقاح لمراحل تطويره كاملة والتأكد من سلامته وأمنه وكذا نجاعته.