لا شكّ أنّ ما أقدم عليه برلمانيون بشأن السعي إلى تجريم التطبيع والوقاية من آثاره الخطيرة هو خطوةٌ محمودة، من حيث المبدأ والواقع، حتى وإنْ أقرّ الجميع بأنّ الجزائر محصَّنة رسميّا وشعبيّا من التقارب مع الكيان الصهيوني تحت أي شكل، بل إن موقف الدولة الجزائرية يمثل حاليا أقوى دعم للقضية الفلسطينية عالميّا. وعليه، وجب النظرُ إلى المبادرة من منظور الانسجام مع الرأي العامّ والتكامل مع الإرادة السياسية العليا، بعيدا عن أي مزايدة عليها أو مناكفتها لتسجيل نقاطٍ مسبقة في سياق انتخابي، لأنّ القضية محلّ إجماع وطني، يقطع الطريق أمام أصحاب السجلات التجارية بالمقدسات القومية للأمة. ما ينبغي الإشادة به كذلك هو أنّ فكرة الاقتراح القانوني تنطلق من مبدأ ضمان الأمن السياسي والفكري والثقافي… والحفاظ عليه، وهو حق مشروع للدولة والمجتمع على السواء، ذلك أنّ الترويج لجعل العلاقات الدبلوماسية أو الاقتصادية أو الثقافية أو الإعلامية أو حتى الرياضية أمر طبيعيّ مع كيان احتلالي استيطاني عنصري، يشكل تهديدا عميقا للاستقرار العامّ في البلاد، ويعرِّض الوئام الوطني إلى الاهتزاز والتصدّع الاجتماعي. ولذلك جاء مقترح النواب في محلّه بشأن منع منعًا باتا على كل شخص أو جهة الترويج لخطاب التطبيع مع الكيان الإسرائيلي عبر وسائل الإعلام الرسمية أو الخاصة، ومثله منع الأفراد والهيئات من الدعاية للتقارب مع عدوّ الأمة في المؤسسات العمومية أو التظاهرات الاحتجاجية أو النشاطات النقابية المهنية أو عبر منصات التواصل الاجتماعي. كما أنّ تجريم التواصل مع المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية المنخرطة في التطبيع داخل وخارج الوطن، ومنع المشاركة معها في أي نشاط، يُعدّ من الضمانات الأساسية لتكريس الأمن القومي، لأنّ مثل تلك الفضاءات لا تعدو أن تكون في الواقع غطاءً للجوسسة وتجنيد عملاء المخابرات الصهيونية عبر العالم. إذا كان تجريم كل فعل على صلة بالتعامل المباشر مع الكيان الصهيوني أمرًا مفروغًا منه ولا يثير الالتباس، فإنّ التوجه أيضًا نحو تعزيز الوقاية من الفكر الاندماجي، عبر سنّ قوانين صارمة للرقابة على الممارسات الدعائية التي تقودها وتمولها يقينًا شبكات المخابرات الإسرائيلية ضرورة وقائية نحو المستقبل، ولا علاقة للموقف بمزاعم صيانة الحريات المفترى عليها، والتي لا تُثار إلا حينما يتعلق الوضع بحقوق المسلمين والمستضعفين. لقد تمكّن الأخطبوط الصهيوني العالمي، عبر اللوبيّات الماليّة والسياسية والإعلامية النافذة، وباسم محاربة معاداة السامية، من تكميم أفواه الإنسانيّة عن تفنيد أساطيرهم الزائفة، حتّى أنهم زجّوا بفيلسوف عملاق، من وزن رجاء غارودي، رحمه الله، في زنزانة مصادرة الرأي المعرفي الحرّ، لتجرُّئه على نسف أكاذيبهم الخياليّة، ومن حقّ العرب اليوم أن يلاحقوا بكل الطرق المتاحة أباطيل الكيان الغاصب، لتحصين الأجيال من التضليل التاريخي وتربية الناشئة على ثقافة المقاومة للاحتلال بكل صورها. إنّ العدوّ الصهيوني يدرك تمامًا أن معركته الكبرى هي مع الشعوب الحيّة والواعية، ولذلك يُوقن تمامًا أن بناء علاقات رسمية مع الأنظمة لا ينفع عمليّا دون اختراق ثقافي وفكري في العمق الاجتماعي، بل يعرّض حلفاءه وعملاءه عاجلا أو آجلا للثورات ضد حكمهم، الذي سيفتقد كل شرعية ومشروعية بالتنازل عن قضايا الأمة. لذلك عجز الكيان حتّى الآن، بعد قرابة 42 عامًا من اتفاقية كامب ديفيد، عن احتواء المصريين مثلا برغم العلاقات الرسميّة، ولا نجح في استمالة الأردنيين إثر اتفاق وادي عربة في 1994، لأن الشعب في الحالتين ظلّ محافظا على مناعته الثقافية ضدّ العدوّ الصهيوني، وهو ما يُبقيه في وضع الجسم الغريب ضمن البيئة العربية الإسلامية، والتي يحاولون منذ عقود طمس هُويتها بتسمية "الشرق الأوسط"، حتّى يكون وجود إسرائيل مقبولا نفسيّا في جغرافيتنا القوميّة. لذلك، من المهمّ عدم الاستهانة بمعركة الوعي لمواجهة مخططات الكيان في كافة المستويات الدولية، الرامية إلى ممارسة عمليات غسل دماغ في الوطن العربي، بعناوين "التعايش الإنساني" و"التسامح الديني"؛ إذ يضغطون باسم "الإصلاح" و"محاربة الإرهاب" لتنقية برامج التعليم والإعلام من الحقائق الفاضحة لجوهر الصراع العنصري الصهيوني الاحتلالي مع "الدولة الوظيفية" للغرب والإمبريالية. لذا، فإنّ السلاح المعاكس بالنسبة للأوطان العربية هو أن تحصِّن شعوبها، من الفكر الانهزامي أمام الغطرسة الصهيونية، مهما اختلت موازين القوى، وتغرس في عقول أبنائها العداوة تجاه الاحتلال، وضرورة الجهاد ضده بكل الوسائل الممكنة.