دوافع بعيدة المدى وراء الخطاب التصعيدي لزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي ضد الرئيس التونسي قيس سعيد، وتجريده من صلاحياته الدستورية وعزله "نظريا" في خانة "رئيس رمزي" في نظام برلماني، يفرز الكتلة الأكبر كسلطة حاكمة يديرها رئيس مجلس الوزراء بصلاحيات حكومية مطلقة. كشف صريح عن صراع راهن، مفتوح على كل الاحتمالات، بين رئيس حزب إسلامي يقود أكبر كتلة برلمانية، ورئيس جمهورية مستقل يستقي قوته من تشريعات دستورية، وضعت صلاحياته السيادية بوضوح لا يقبل الجدل أو التأويل، يطبق مضامينها دون خلل أو تحريف، ولا يتجاوز حدودها التشريعية، فهو العارف أكثر من أي سياسي بجوهر القانون الدستوري وقوة نفاذه. خطأ جسيم وقع فيه راشد الغنوشي، لم يراع عواقبه في ظرف سياسي – أمني مضطرب، مفسرا الدستور بعيدا عن جوهر معانيه، معمقا جوهر الصراع مع رئيس الجمهورية المحصن بقوانين تشريعية، عززت دوره السيادي، في دولة تحافظ على هيبتها بقوة نظامها المدني منذ استقلالها المنجز: "يتولّى رئيس الجمهورية تمثيل الدولة ويختص برسم السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة". نص دستوري واضح، لا يتغير معناه في قراءة سياسية، تتعامل مع حدث قائم، تفتح فيه بابا للخروج من أزمة تحاصر الناطق بها، بالالتفاف على مبادئ دستورية. الدستور التونسي المقر عام 2014 لم يشر إلى دور رمزي لرئيس الجمهورية، وهو يوسع صلاحياته في مواده وبنوده، ويقر بأنه القائد الأعلى للقوات المسلحة، ورئيس مجلس الأمن القومي، والمخول بإعلان الحرب والسلم بعد موافقة مجلس البرلمان، واتخاذ التدابير التي تحتمها "الحالة الاستثنائية" في حال خطر داهم يهدد البلاد، ويتولى حل مجلس البرلمان في الحالات التي ينص عليها الدستور. بعد استعراض ما جاء في الدستور الوطني، هل يبقى الحديث منطقيا عن دور رمزي لرئيس الجمهورية بصلاحياته الواسعة في هذا النظام السياسي؟ طموحات الائتلاف البرلماني الحاكم بقيادة حركة النهضة، اصطدمت بصلاحيات رئيس الجمهورية، وأضحت عائقا في فرض سلطتها على الرئاسات الثلاث، وقيادة مفاصل الدولة وفق برنامجها السياسي، الذي اختارت له طاقما حكوميا معدلا حصل على ثقة أغلبية أعضاء مجلس النواب، لن يباشر مهامه قبل أداء اليمين الدستوري أمام الرئيس قيس سعيد. مأزق سياسي وطني كبير، وهجمة وبائية تفتك بالبشر خرجت عن نطاق السيطرة، وتهديدات خارجية يفرضها الوضع الإقليمي المتوتر، يدعو حركة النهضة إلى توخي الواقعية في إدارة الشأن الراهن، والنظر بعين فاحصة إلى غضب الشارع التونسي الذي يرى مستقبل البلاد بإسقاط الحكومة وحل البرلمان الذي فقد شرعيته الشعبية، والعمل الجاد على ردم فجوة الخلاف مع رئيس الجمهورية بالتخلي عن تجاوز صلاحياته الشرعية، وإدراك حقيقة أن النظام السياسي التعددي في تونس لا يخضع ل"سلطة الحزب الحاكم".