تضمّ الجزائر شخصيات معروفة دوليا في مجال النّحت والفن التشكيلي، ولها من التجربة ما يجعلها تُنجز أعمالا فنية راقية، وتحول الفضاءات والمساحات الخضراء إلى تحف فنية، في وقت تُسند عملية إنجاز التماثيل والنصب التذكارية لشخصيات تاريخية ووطنية في الجزائر إلى مقاولين وفنانين هواة!! وهو ما يجعل هذه المنجزات تثير الجدل كل مرة. لماذا تفتقد المنحوتات والمجسمات المنجزة مؤخرا لأدني مقاييس والإبداع والفن، مقارنة بما كان يُنجز خلال حقبات زمنية سابقة؟ هو سؤال يطرحه كثيرون، فمن تمثال الأسد " غريب الشكل " بولاية باتنة إلى مجسمات لشهداء الثورة أو شخصيات وطنية لا تشبههم في الشّكل، إلى منحوتات "غامضة المعنى" موجودة في بعض المساحات ومفترق الطرقات، التي زادت المحيط بشاعة لا جمالا. وينتقد كثيرون ما يعتبرونه عشوائية في اختيار الفنانين التشكيليين، لإنجاز أعمال لتزيين المحيط أو تخليد رموز الذاكرة الوطنية، أين تستعين السلطات المحلية وبعض الوزارات بفنانين تشكيليين هواة. وفي هذا الموضوع، تحدثت "الشروق" مع الفنان التشكيلي والإطار السابق بوزارة الثقافة، الطاهر ومان، وهو عضو بعدة جمعيات فنية خارج الوطن، وكان من المشاركين في مشروع توسعة الحرم المكي سنة 2009، الذي أبدى تأسّفه لما يعيشه مجال إنجاز التماثيل والمجسمات والجداريات، من تسيب وإهمال وعشوائية، مُعتبرا أن الجزائر تملك مواهب بشرية في المجال معروفة دوليا، ومنهم الفنان التشكيلي محمد بوكرش الذي يرقد على فراش المرض حاليا، بعدما عانى من تجاهل السلطات، وهو صاحب التمثال الرائع "الحمّال" المنصب بساحة تافورة بالعاصمة. يقول مُحدثنا: الإشكال أن السلطات لا تعطي أهمية للفن التشكيلي، لدرجة صارت مناقصات إنجاز النصب التذكارية ومجسمات الذاكرة الوطنية تُمنح للمقاولين بدل الفنانين، والمقاول وليخفف التكاليف عن عاتقه، يستعين بشباب هواة يجهلون أصول فن النحت. وزارة المجاهدين تتعامل مع الوجوه نفسها لإنجاز النصب التذكارية وأضاف: "مثلا وزارة المجاهدين، لديها المديرية الفرعية للنصب التذكارية، وكان عليها أن تتعامل مباشرة مع فنانين تشكيلييّن معروفين في فنّ النحت، لإنجاز مجسمات الشخصيات التاريخية والوطنية، خاصة وأن كثيرا من شهدائنا ليس لهم مجسمات تخلدهم للأجيال القادمة، ولكن الوزارة تتعامل مع نفس الوجوه دائما ". كما أن المنحوتات المخلدة لتاريخ الجزائر" لابد وأن تصنع من مادة البرونز التي لا تتلف مع عوامل الزمن، وليس من الأسمنت مثلما نراه حاليا، وإن كانت الجزائر لا تملك مصاهر لتذويب مادة البرونز، وهو ما يصعب عمل النحاتين، فيلجؤون لمادة الأسمنت غير المقاومة للعوامل الطبيعية ". ومحدثنا الذي شارك في إنجاز عدة جداريات لجامعات جزائرية ولتزيين المحيط، يؤكد أن الفن التشكيلي لا يعني إنجاز التماثيل والمجسمات فقط، بل "يدخل النحت في تزيين المحيط وتهيئة المساحات الخضراء.. مثل إنجاز شلالات متحركة وجداريات ورسومات وتحويل الصخور لتحف فنية، وتزيين الأحياء السكنية، وجميعها تدخل في تجميل المحيط، خاصة وأن الجزائر تمتلك مناظر طبيعية خلابة وهي بحاجة لتهيئة فقط ". المنطقيّ أن تنجز التماثيل بالبرونز لتقاوم العوامل الطبيعية وحتى التحف الفنية القديمة، أضحت عرضة للإهمال "فتمثال الحمّال الموجود في ساحة تافورة الذي أنجزه الفنان الجزائري محمد بوكرش سنة 1986، ويخلد مجزرة الحمالين (les dockers) إبان ثورة التحرير، لا يلقى الصيانة الدورية وهو عرضة للإهمال، بل وتحوّل المكان إلى مرقد للمتشردين والسكارى ". وصاحب تمثال الحمال، محمد بوكرش ابن مدينة خميستي بولاية تيبازة، شارك في تظاهرات دولية، وكُرّم في الصين، وهو الوحيد الذي كان يتقن فن التعامل مع الحجر. والأخير سبق له منذ سنوات أن اقترح على وزارة الثقافة، فتح ورشة دولية للنحت تستضيف نحاتين من العالم العربي، وتبقى منحوتاتهم التي ينجزونها في الجزائر لتجميل المحيط، والفكرة لم تتحمس لها وزراة الثقافة. وأضاف، وحتى وزارة التعليم العالي، أنشأت في السبعينات الديوان الوطني للبحث العملي، والذي يساهم بتوظيف الفن في المحيط، عن طريقة تأسيس مجموعات للبحث والدراسة في كل ما يتعلق بالفنون التشكيلية، ويشارك فيها علماء الاجتماع والنفس والمهندس والمعماري، " لأن النّصب التذكاري، يحتاج لدراسة معمقة قبل تنصيبه في مكان معين..فمثلا النصب الصغير جدا الموضوع في مساحة شاسعة جدا بالقرب من وزارة الطاقة، يعتبر خطئا معماريا " على حد قوله. ومحدثنا، هو من أنجز النصب التذكاري للمغرب العربي على مادة الخزف في 1988، والمتواجد بولاية وهران، مقابل القنصليتين الامريكية والمغربية، وعنه يقول: " التيار الفرنكفيلي شن عليا حربا شرسة وقتها لإزالة النصب، ومبررهم أنني أدرجتُ أبياتا شعرية لشاعر الثورة مفدي زكرياء على النصب، حيث اتهموني بالإساءة لتاريخ المكان الكولونيالي !!". والنصب لا يزال موجودا، ولكنه يتعرض دوريا للتخريب من أياد مجهولة.