لقد كسر الباب الذي كان يمنع المسلمين من السقوط في الفتن مع اغتيال الخليفة العادل عمر رضي الله عنه، وسوف يشرع على مصراعيه مع اغتيال الخليفة عثمان، ثم الخليفة علي رضي الله عنهما، وسقوط الخلافة الراشدة التي كانت هي المستهدف الأول والأخير، ولم يكن خروج جماعات متمردة على الخليفة سوى تفصيل في مسار متدحرج تداعت إليه قوى متعددة، ظلت تعمل خلف الستار، وقد تقاطعت مصالحها لتصل بالمسلمين إلى التسليم مبكرا في نظام حكم شوري غير مسبوق عند العرب كما عند جيرانهم من الأعاجم، والتدحرج بعد موقعة صفين إلى جملة من الفتن التي لم تتوقف عند الصراع المفتوح على السلطة بعد إسقاط مبدأ الشورى، حتى صنعت لهم صراعات مذهبية قائمة على الشبهة والتأويل الميسر للمتشابه من التنزيل، والغلو في وضع الأحاديث الكاذبة، واستباحة الطعن في سيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. منذ أن عرض علي الخوض في موضوع فتن المسلمين، ومنها ابتداء موضوع الفتنة الكبرى، كنت حسمت الأمر من جهة المنهج، ومن جهة امتناع تناولها بمنهجية المؤرخين وأنا فاقد لأدواتهم، كما خشيت أن أنساق خلف التفاصيل وأشتت معي ذهن القارئ، الذي قد يكون أ كثر إحاطة بها مني، وقد اطلعت تباعا على ردود وتعليقات القراء التي كانت خير معين لي، وكفتني مئونة الخوض في التفاصيل، مع الخوف المشروع من اعتماد روايات متنوعة ومتضاربة، أكثرها أعيد صياغته لاحقا لخدمة خط سياسي أو مذهبي. لأجل ذلك سوف أتوقف عند الخطوط العريضة الكاشفة لحقيقة الفتنة التي قادت مجموعة من المسلمين إلى الخروج على الخليفة عثمان، في مسار احتجاجي ناقم على ما ادعاه قادته أنها سياسات خاطئة، متهمة ب"الأثرة" وسوء إنفاق أموال المسلمين، والتستر على مظالم يكون بعض ولاة الخليفة عثمان رضي الله عنه قد ارتكبوها في حق الرعية، لتنتهي بهم إلى جريمة قتل الخليفة بعد فرض حصار على بيته، بلغ حد منع القوت والماء عنه وعن أهله، وهو الذي أنفق أيام العسر الكثير من ماله الخاص في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل وبعد الهجرة، وفي زمن الخليفتين أبو بكر وعمر، وكان له الفضل، وهو خليفة، في توسيع رقعة الفتوحات شرقا وغربا، وله الفضل على سائر المسلمين إلى يوم الدين بما اجتهد لهم من إعادة جمع القرآن وحفظه في مصحف واحد، أغلق به أكثر من فتنة كانت ستفتح على المسلمين لاحقا. وقد وجب علينا، ونحن نباشر نشوء الفتنة التي قادت إلى اغتياله رضوان الله عليه، أن نتوقف قليلا عند ما أنجزه الخليفة ذو النورين، وعزز به الصرح العظيم الذي شيده صحابة رسول الله تحت إمرة الشيخين: أبو بكر وعمر رضوان الله عليهما. فبعد مقتل الخليفة عمر بن الخطاب، وجّه الخليفة عثمان الجيوش لاستكمال فتوحات فارس، فوجّه جيشًا لمنطقة (الري) شرق بحر قزوين، برئاسة أبو موسى الأشعري، وفتحت الجيوش الإسلامية في عهده أذربيجان، وأرمينية غرب بحر قزوين، وفي سنة 26 ه فتحت سابور في شرق فارس، وكانت من المناطق الغنية الكثيرة السكان، حتى أن خراجها كان ثلاثة ملايين وثلاثمائة ألف درهم في السنة، وبدأ الخير يعم على المسلمين بصورة كبيرة، وفي سنة 27 ه فُتحت أرجان، وهي من بلاد الفرس، وتوالت الفتوحات متجهًا نحو الغرب، باتجاه ما يسمّى الآن بتونس. وفي سنة 28 ه فُتحت قبرص بحرا، واستكملت فتوحات إفريقية، ووطدت أركان الدولة الإسلامية في منطقة شرق وشمال إفريقية، وفي العام 30 ه فتحت خراسان، ونيسابور، وقوص، وكثر الخراج بصورة عظيمة. (يتبع)