"التخلف كل لا يتجزأ"، وللتخلف سمات وخصائص مميزة في جميع المجالات، ففي مجال الفكر - مثلا - نجد من هذه الخصائص المميزة "الإطلاق والتناقض والتعميم" وكلها وليدة "النظرة التجزيئية" إلى المسألة المفكّر فيها، ولنأخذ لذلك مثالا هو حكمنا - نحن المسلمين - على الحضارة الغربية المعاصرة بالإفلاس ونحن عندما نقرر ذلك ونؤكد قرب انهيارها "لفساد أخلاقها وطغيان ماديتها وسيرها في طريق مسدود"، فإننا نتصور هذه الحضارة بإنجازاتها العلمية شجرة تآكلت جذورها وفروعها ولم يبق إلا انتظار سقوط ما عليها من ثمار لنستهلكها - نحن المسلمين - "الذين لم تفسد أخلاقنا ولم تطغ علينا المادة لأن حضارتنا أخلاقية قائمة على أكمل دين". إن خطورة هذا النوع من التفكير تكمن في أنه يغذي ذهنية التخلف أصلا، لأنها تؤمن بأنها، باستخدامها واستغلالها لثمرات التقدم العلمي الغربي فإنها تمتلك تلقائيا التفكير العلمي الذي حقق ذلك التقدم، وهذا ما يعرف اليوم "بالحداثة المادية" وهي أن يفهم الإنسان "المتخلف" بأن التطور والتقدم والرقي هو القدرة على التمتع بخدمات العلم والتكنولوجيا دون الإحساس بضرورة الارتقاء إلى مستوى الفكر الذي حقق تلك المنجزات والانتصارات. ثم، لماذا "الإحساس بالعقدة" أصلا أمام التقدم العلمي التكنولوجي الغربي مادام كل اكتشاف جديد في مجال العلوم والمعارف نجد له إشارة في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، ومعنى ذلك أن الإسلام سبق هؤلاء العلماء الغربيين "المكتشفين"بخمسة عشر قرنا إلى هذه الحقائق العلمية، وبديهي أن العظمة ستظل للإسلام لا للمسلمين إذا لم يتحرروا من هذه الذهنية.. إن الغرب، بمشكلاته وأمراضه الحضارية لم يحقق ما حققه من تقدم علمي وفكري إلا بعد قرون من السعي والجهد، أرسخ خلالها تقاليد نابعة من ذاته ومناخه، وما يبدو لنا نحن اليوم سهل المنال "بمنطق الحداثة المادية" إنما جاء بعد سلسلة طويلة من المحاولات والأخطاء، وهذا ما يمثل القوة الحقيقية وليس المنجزات في حد ذاتها! أي الفكر المجتهد المبدع.. إن هذه النظرة السلمية هي التي ينبغي أن ننظر بها نحن إلى واقعنا المتخلف بمشكلاته المتخلفة وإلى الغرب المتقدم بمشكلاته الحضارية. فهناك فرق كبير جدا بين أن يقول فيلسوف مؤرخ مثل "توينبي" عن الحضارة الغربية : "إنها صدفة فارغة" لأنه يصفها كذلك وهو يعلم جيدا ما بداخلها ويملك في الوقت نفسه التصور الصحيح لما ينبغي أن تكون عليه، فرق كبير بين هذا القول وبين "حكم مطلق" سطحي ساذج يصدره إنسان متخلف، إلا إذا كان واعيا حقا - مثل توينبي- لما يقول.. فهناك من الأحكام المطلقة ما هو محفوظ لفرط تكراره وذيوعه، يردد وكأنه "حقائق مسلم بها" بينما هو في حاجة ماسة إلى مراجعة وضبط. فإلى أي حد يمكن الاطمئنان - مثلا - إلى ذلك الحكم الذي يرى أن العالم الإسلامي الذي فاته الرفاه المادي الذي يتمتع به الغرب فإن "عزاءه الدائم" أنه سليم معافى في روحانيته. لكن واقع المسلمين يدفع دفعا إلى الاعتراف بأن حياتهم الروحية ليست أحسن حالا من حياتهم المادية. قال المفكر المسلم "رجاء جارودي" إن الغرب قد تفنن في تعليم الإنسان كيف يعيش، لكن مأساته أنه لم يفكر يوما في تعليم هذا الإنسان لماذا يعيش؟ ولمن يعيش؟! والذي يتأمل تاريخ المسلمين الحديث وما نتج عن احتكاكهم المباشر بالحضارة الغربية يتأكد من أن أكبر جناية جناها الغرب على "الشرق" هي أنه أورثه هذه الفلسفة وأصبحت متحكمة في نموه وتطوره، وإن ادعى غير ذلك في مستوى الوعي السطحي، إن مما نعلمه جميعا أن الإسلام كان منذ ظهوره قوة تحررية فعالة ينشر الحركة والتجديد ويحارب الجهل والتخلف والظلم والاستبداد ويدعو إلى الحياة فلم يكن غريبا أن تنشأ في ظله الحركات التحررية التي تربى زعماؤها على تعاليمه وتغذوا بقيمه ومبادئه، في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، ولم يكن غريبا أن يكون العلماء المسلمون هم رواد تلك الحركات التحررية، قاوموا الاستعمار وفضحوا مخططاته وواجهوا في الوقت نفسه الجامدين من المسلمين الذين أساؤوا فهم دعوتهم إلى الإصلاح والتجديد وتحرير العقل من التفكير الخرافي، ولقد كان من الرواد الأوائل الذين صححوا هذا الفهم السيء جمال الدين الأفغاني الذي قال :"ليس المراد بإصلاح ديننا أن نحدث فيه حدثا لم يأت به نبينا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أو نحرف فيه تعليما أو حكما أتى به أو نصّ عليه، وإنما المراد أن نرجع في بساطة عقائدنا وسهولة تعاليمنا إلى ما كان عليه الحال في الصدر الأول، فنتوسع ما شئنا في أمور الدنيا ومقومات عمرانها، أما أمور الدين فنقف عند حدوده ونصوصه وقفة عواجز، ثم نسعى إلى تعلمه وتفهمه من أقرب الطرق وأسهلها فلا يقضي أحدنا عمره في تعلم الدين تعلما يقصينا عنه ويحول بيننا وبين العمل به والاهتداء بهديه لكن أولئك الرواد لم يكونوا يرون في تحرير شعوبهم غاية في حد ذاتها بل كانوا يعدون ذلك مرحلة ووسيلة إلى إقامة مجتمع يتخذ الإسلام عقيدة وشريعة ومنهاج حياة. لكن الذي حدث أن هذه الشعوب التي انتصرت وحققت "الاستقلال السياسي" وجدت نفسها أمام تركة ضخمة من الهياكل والمؤسسات والنظم والقوانين التي خلفها الاستعمار المنهزم عسكريا وسياسيا، فلم تتساءل وفق أي منهج أو "فلسفة" ينبغي لهذه المؤسسات والهياكل أن تتحرك وتعمل؟! بل اكتفت بما ورثته معها من المفاهيم والنظريات، ثم قادها الانبهار إلى تجاوز استيراد الماديات إلى القيم والأفكار دونما تمييز واع بين ماهو مشترك إنساني عام بين جميع الحضارات القائمة أصلا على الأخذ والعطاء وبين ما هو ذاتي متميز خاص بمجتمع دون آخر وبحضارة دون أخرى. وكانت نتيجة ذلك كله ما تعيشه هذه المجتمعات الإسلامية اليوم، التي بهرت العالم في أمسها القريب بثوراتها التحررية التي حققت لها الحرية والاستقبال، لكنها انهزمت حضاريا وعجزت عن تحقيق الذات أمام مستعمرها بالأمس، المنهزم سياسيا وعسكريا والمنتصر حضاريا. إن المتأمل في أحوال المسلمين اليوم وما أفرزته من تناقض صارخ بين سمو العقيدة وسعة الرقعة ووفرة العدد وغنى الموارد، من جهة، وبين التخلف والتشتت والضعف والهوان، من جهة أخرى يقول: إن الغرب إذا كان يعيش مرحلة "الصدفة الفارغة" فإن الشرق يعيش "مرحلة الغثائية" (...أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل) صدق رسول الله صلى الله وملائكته عليه وسلموا تسليما..