يواصل الشيخ المفكر محمد المختار في الجزء الثاني من هذا البورتريه الحديث عن أهم محطات حياته الطويلة، وفي هذا الجزء يتحدث عن قصة إفراده برفع العلم الجزائري لأول مرة بسوريا وقصة الكلمة التي ألقاها في مجلس الشعب المصري وجعلت جمال عبد الناصر يبكي، وقصة تسليمه لثلاث رسائل طلب منه بن بلة أن يبلغها لقادة الثورة والتي كانت سببا في اجتماع مجموعة ال 22 التاريخية. * في سنة 1952، ذهب الرئيس الأسبق "أحمد بن بلة" مع "أحمد محساس" بصعوبة إلى مصر بعد فراره من سجن البليدة، وهناك شاع اسمه بفضل "عبد الكريم الخطابي" الذي قدمه للسلطات المصرية وعلى رأسها "جمال عبد الناصر" وأصبح في ظرف وجيز صاحب كلمة وحضور. وكان بن بلة يروج للقضية الجزائرية هناك ويحشد التأييد من العرب الوافدين على مصر لصالحها. وتزامن وجوده في مصر مع مشاركة الكشافة الإسلامية الجزائرية في الجمبوري العربي الذي أقامته الجامعة العربية في أوت 1954 بإشراف الأمين العام للجامعة آنذاك "ابن الخالق حسونا" في مدينة "الزبدية" بسوريا. * انطلقنا من الجزائر العاصمة في حافلة وكان وفدنا يضم 34 شابا بقيادة الشهيد "عمر لاغا"، ولما وصلنا إلى تبسة سلّمنا أحد الإخوة من الكشافة اسمه "بدري" علما مطرزا بالذهب والفضة لكي نرفعه في الجمبوري، وعندما وصلنا ليبيا أكرمتنا الكشافة الليبية بمأدبة وغنينا مع أهازيج الكشافة، ثم واصلنا الطريق إلى مصر، وعندما وصلنا أقمنا بنادي الشبان المسلمين، وكان خيذر وآيت أحمد مكلفين بالتحضير للوفد الجزائري، كما التقينا الشيخين "الورتلاني والبشير الإبراهيمي" وكذلك "الشاذلي المكي" وقد أكرمونا جميعا برعايتهم وتشجيعهم. * * * ألقيت كلمة باسم الوفد الجزائري أبكت جمال عبد الناصر * * وبعد مرور 10 أيام من إقامتنا في مصر، رتب لنا "خيذر" بجرأته وحماسه لقاء مع الرئيس جمال عبد الناصر الذي استقبلنا بمجلس الشعب استقبالا رائعا. واغتنمت الفرصة وقدمت له العلم الذي جلبناه معنا من "تبسة" المطرز بالذهب والفضة. وكان يوما تاريخيا بالنسبة لي لأن عبد الناصر ترك وزير خارجية الهند "كريشي مينون" وجاء إلينا إلى قاعة مجلس الوزراء وأكرمنا بالحلويات. وكان أعضاء الوفد متعجبين من جلوسهم في ذلك المكان الذي يجلس فيه وزراء مصر وكان الإخوة يتساءلون: هل ستكون لنا نحن أيضا رئاسة وحكومة وسيادة. وأتذكر أنه عندما فاجأنا عبد الناصر بدخوله علينا بقينا مشدوهين، فاستدركت الموقف وقلت لأعضاء الوفد "كشاف كن مستعد" ثم أمرتهم بترديد النشيد "كلنا للقطر الفدا، شباب لا يخشى القتال" فتأثر جمال عبد الناصر تأثرا شديدا وارتجف كورقة الصفصاف. ونيابة عن زملائي ولكوني أتقن العربية جيدا ألقيت كلمة باسم الوفد أنزلت الدموع من عينيه. وبعدها تناول هو الكلمة وقال تصريحاته التي اعتبرت خطيرة في ذلك الوقت "اعتبروا مصر أم الجزائر الكبرى، وستسعى إلى تحريركم واستقلالكم مهما كانت التضحيات"، وكانت تلك التصريحات من أسباب العدوان الثلاثي على مصر. * * رسائل ثلاث سلمتها لقادة الثورة كانت سبب اجتماع مجموعة ال 22 التاريخية * * تثبت وثيقة اعتراف دوّنها الرئيس الأسبق أحمد بن بلة تسلمت "الشروق اليومي" نسخة أن بن بلة عندما كان في القاهرة كلّف الشيخ محمد مختار إسكندر بتسليم ثلاث رسائل لقادة الثورة "مصطفى بن بولعيد، العربي بن مهيدي وإبراهيم غرافة" وكانت هذه الرسائل السبب الحقيقي في اجتماع مجموعة ال 22 التاريخية التي انبثقت عنها مجموعة الستة التي فجّرت الثورة التحريرية المباركة. وعن قصة هذه الرسائل قال الشيخ إسكندر: "أثناء إقامتنا بمصر اهتم بي بن بلة بعد الكلمة التي ألقيتها أمام عبد الناصر، وحدث أن اختلى بي وسلمني ثلاث رسائل وطلب من الوفد أن ينقلها إلى الجزائر ويسلمها إلى قادة الثورة المذكورين آنفا، وأمننا على ذلك، فتحملنا تلك المسؤولية وأخفيناها طوال رحلتنا حتى عدنا إلى الجزائر وسلمناها لأصحابها. وللتاريخ، فقد سلم الأخ "الطيب خراز" رسالة إلى البطل الشهيد "مصطفى بن بولعيد" وسلمت أنا رسالة إلى "إبراهيم غرافة" أما الثالثة فلم ندر لمن سلمها أحد الإخوة. وقد عرفت فيما بعد أن محتوى تلك الرسائل التي لم أفتحها تتضمن تأييدا من الأشقاء العرب للقيام بثورة في الجزائر. * * رفعت العلم الجزائري لأول مرة في سوريا رغما عن جواسيس فرنسا * * وقبل مواصلة سيرنا إلى سوريا، تلقينا توجيهات من الشيخ البشير الإبراهيمي والشيخ الورتلاني، فقد قال لنا الإبراهيمي إن لم تخن الذاكرة: "إنكم ستلتقون بزملائكم من المشرق العربي، وربما يكونون مثقفين أكثر منكم، لكن لا تحتقروا أنفسكم فإنكم -ربما- تفوقونهم مستوى، وظننا فيكم أنكم تتمتعون بالنشاط والعزم والحزم وحسن الأداة والعزة والنخوة والكرم والنجدة، وهذا ما أتوسّمه فيكم، فكونوا خير سفراء لوطنكم الذي خانه الحظ في أن يكون مستقلا كغيره من الأقطار الشقيقة والصديقة". * وبالفعل كنا خير سفراء في ذلك الجمع الحاشد من خيرة شباب الدول العربية، فقد كنا ألفا وخمسمائة شاب عربي، وكنا في الطليعة نشاطا وحزما وعزما، حيث جعلت لجنة الاستعراض الرسمي الوفد الجزائري في الطليعة بفضل انضباطه وحسن سلوكه ونظامه، وقد نشر ذلك في مجلة "الكشاف اللبناني" في شهر أوت 1954. * وأتذكر جيدا يوم زارنا الأمين العام للجامعة العربية "ابن الخالق حسونا" في جناحنا، ورددنا أمامه نشيد "كلنا للقطر الفدا" فنزلت الدموع من عينيه لأنه أحس أن النخبة التي أمامه تطمح إلى أن يكون لبلادها سيادة مثل بقية الشعوب. كانت أعلام كل الوفود ترفرف في أجنحتها إلا الوفد الجزائري لأن الحكومة السورية الشقيقة سلمتنا العلم الفرنسي فأبينا أن نرفعه، فقالوا لنا إن ذلك سيتسبب لهم في مشاكل مع سفارة فرنسا لأن لها جواسيس منتشرون في كل مكان. لكننا أصررنا على رفع العلم الجزائري، واتفق على ذلك كل أعضاء الوفد، فنفذنا رغبتنا وكم كان عزيزا وغاليا أن رأيناه يرفرف في السماء. أشير إلى أن العديد من أعضاء الوفد استشهدوا في الثورة التحريرية ومنهم رئيس الوفد "عمر لاغا". والطريف في ذلك التجمع أن الإخوة العرب لم يكونوا يعرفون شيئا عن الجزائر فقمت بتعريفهم بالكثير من الأشياء عن وطني، وكنت سعيدا جدا بذلك. * * * تحفة "المفسرون الجزائريون عبر العصور" * * من أهم الكتب التي نشرها الشيخ محمد مختار إسكندر كتاب "المفسرون الجزائريون عبر العصور" الواقع في 4 أجزاء، وهو عبارة عن بحث تاريخي دقيق عرّف فيه الشيخ بكل المفسرين الجزائريين انطلاقا من القرن الثاني للهجرة، وهو دليل على أن هذه البلاد لها تاريخ عريق ولها رجال خدموا الإسلام على مر العصور بل كانوا متفوقين في الحفاظ عليه. وللشيخ كتاب آخر عنوانه "المحدثون الجزائريون عبر العصور" بالإضافة إلى 40 عنوانا مخطوطا في شتى المجالات الفكرية. * * مجاهد يرفع شكواه لوزير المجاهدين * * بالرغم من المجهود الكبير الذي بذله الشيخ محمد المختار إسكندر لخدمة شعبه ووطنه، وهو ما يجعله يصنّف في خانة المجاهدين إلا أنه لم يحصل على هذه الصفة حتى اليوم، ولم يحصل على حقوقه كمجاهد. ورغم الوعود الكثيرة بتسوية وضعيته من قبل وزراء المجاهدين إلا أن الوعود ظلت مجرد كلام. والغريب في الأمر أن هناك مئات من الكاذبين لديهم بطاقات ولهم حقوق، فلماذا لا ينظر إلى الشيخ مختار إسكندر وأمثاله.