تحفظ الإعلامي الجزائري مداني عامر، عن الخوض في قضية تحامل بعض الجهات على الرئيس الأسبق الراحل الشاذلي بن جديد ومحاولتهم تشويه صورته من خلال تحميله مسؤولية الدماء التي سالت في العشرية السوداء إثر إقراره للديمقراطية والتعددية الحزبية، وتساءل الصحفي السابق في مؤسسة التلفزيون الجزائري قائلا:"أريد أن أسأل هؤلاء الذين يقولون هذا الكلام، هل سارت التجربة إلى منتهاها، الأشياء بخواتمها". في البداية ماذا لو تطرقنا إلى بداياتك في التلفزيون الجزائري؟ ذهبت إلى التلفزيون بالصدفة، فأنا خريج معهد القانون، أنجزت أطروحة الماجستير في القانون الدولي وكان الوارد بنسبة 99 % أن أذهب إلى الخارجية الجزائرية، ولكن رب صدفة خير من ألف ميعاد، فقد ذهبت إلى التلفزيون لزيارة صديق وكانت بداية قصة عشقي للتلفزيون، وعرضت علي وظيفة رغم أنني كنت أنتظر نتائج المسابقة للالتحاق بمنصب ملحق دبلوماسي بالخارجية، مشيت إلى التلفزيون ولم تكن لي سابق معرفة لا بالمهنة ولا بالجهاز، وتعلمت كل شيء في التلفزيون وله فضل كبير علي اليوم وغدا في كل ما حققته، ومنح لي التلفزيون فرصة تكوين مكثفة في الخارج وفي الداخل، كان يتوفر على معهد للتكوين على مستوى التلفزيون، وكانت هناك دورات سنوية في كبريات دول العالم على رأسها، أمريكا، بريطانيا، فرنسا، إيطاليا وحتى في اليابان، فأنا وأبناء جيلي كانت لنا فرصة التكوين والتدرب على المهارات والتقنيات التي كان الصحفي والفني يستفيد منها في المؤسسات التلفزيونية الكبرى، وبالإمكانيات التي يتوفر عليها الصحفي الفرنسي والأمريكي، ولذلك تسلح أبناء جيلي بمهارات كبيرة في مجال الإعلام، وأحب أن أشير إلى أن التلفزيون كان يتوفر على مديرية كاملة للتكوين، وهو الأمر الذي جعلنا فيما بعد نطالب بفرصة تطبيق هذه الخبرات في التلفزيون، وكذا محاولة إقناع أصحاب القرار السياسي أننا إعلاميين وهم سياسيين، وكنا نحاول في كل مرة إيصال فكرة أننا تلفزيون عمومي وليس حكومي، فالتلفزيون العمومي يفتح على كل شرائح المجتمع وفئاته. لكن الواقع مازال يثبت العكس، فالتلفزيون العمومي في بلادنا هو تلفزيون حكومي، ما قولك؟ صحيح هذا الواقع، ولكن صدقيني لقد تمكنا في فترة التسعينيات أن نقنع صانع القرار الأول، وكان في ذلك الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد رئيسا للبلاد بأن ترك الإعلام يعمل بالمعارف والخبرات والأخلاق المهنية أفضل من تكميمه وتدجينه، ولذلك انطلق التلفزيون الجزائري في ظرف وجيز وأصبح مرجعية، مع الإشارة إلى أن التلفزيون الجزائري كان يتمتع بجيل إعلامي جميل في بداية التسعينيات أذكر منهم مراد شبين، كمال علواني، عبد القادر دعميش، عبد الكريم سكار، ومن الوجوه النسائية كانت زهية بن عروس وخديجة بن ڤنة، ورغم المنافسة التي كانت قائمة إلا أنها لم تحول دون بروز كل هؤلاء، لأن العمل كان يتم وفق سياسة تكافؤ الفرص وكان المجال مفتوحا للجميع من أجل العمل والإبداع، وأذكر أنه في حرب الخليج الأولى في جانفي 1991 كان التلفزيون الجزائري ينافس "سي أن أن"، وكان مراسلو التلفزيون الجزائري متواجدون على سطح فندق الرشيد إلى جانب "بيترا نتن"، وسعد الدين الشاذلي قائد أركان الجيش المصري في استديو التلفزيون الجزائري يحلل المعارك الجارية، وعندما أتحدث بالإحالة إلى ذلك الزمن هناك وجع شديد في القلب، مشكلتنا في السابق أن المشاهد الجزائري مدمن على مشاهدة القنوات الأوربية، وكان التحدي الذي وضعناه يتعلق بكيفية سحبه ليشاهدنا ونجحنا لدرجة أنه حتى النشرة الجوية نشرة محترفة يشاهدها حتى صانع القرار. قلت أنكم في ذلك الوقت طالبتم صانع القرار بعدم التدخل في الإعلام، هل كان ذلك في جلسة معه؟ كنا نسافر معه كثيرا في الجزائر وحتى في الدول الخارجية، وكنا كذلك نلتقي المحيطين به من الذين كانت لهم يد في صناعة القرار السياسي والإعلامي، ولم نتردد في عرض الأمر عليهم ولمحوا جميعا إصرارنا على ما طلبناه من خلال عملنا، وأدرك الشاذلي بن جديد أن الأمر ليس مجرد كلام فقط واقتنع أن ما يحدث في التلفزيون هو احتراف حقيقي، وخرجنا نحن الصحفيين في ذلك الوقت من خانة الاحتواء إلى خانة الحماية والدعم، كانت بين الإعلام والسلطة قنوات حوار وأخذ ورد واقتناع في الأخير، وبدل أن نكون خصوم ورقباء أصبحنا نتبنى نفس القضية، ولذلك نشأ جيل جاد من الصحفيين والفنيين والمسؤولين الذين وعوا الدور وأهميته، وفتحوا الباب أمام التلفزيون حتى ينافس ويثبت ذاته، وأصبح مفخرة لنا كإعلاميين وكطاقم كان يسهر على العمل. كيف كان الرئيس الشاذلي بن جديد يتعامل معكم؟ كان يتعامل معنا باحترام كبير جدا. ما هي المشاهد التي بقيت في ذاكرتك عن الرجل؟ أذكر مرة كنا في رحلة إلى أحد بلدان أمريكا اللاتينية، وعادة ما يدعو الإعلاميين عندما تكون الرحلة طويلة إلى جناحه، وكان يبدأ حديثه دائما بالسؤال عنا وعن ظروفنا، فقلنا له نحن بخير، ولكن نملك مشكلا فيما يخص أخبار الرئيس، وأصبح المشاهدون يشتكون من التركيز على أخبار الرئيس، وأنهم لا يشاهدون الأخبار إلا بعد بث أخبار الرئيس؟ فرد علينا قائلا:"والحل"؟، قلنا له حين يغيب الشخص ينتظره الناس ويسألون عنه والعكس، وفي نهاية جلستنا إليه طلب من مرافقيه تذكيره بقضية الأخبار، وللأمانة فإن الرئيس الشاذلي بن جديد مستمع جيد، وكانت كلمة "واش تقولوا نتوما" لا تفارق فمه، وقال ذات يوم "دعوا هذا الشباب الذي كوّنته الدولة يعمل بحرية"، وبالمناسبة كان له فضل كبير جدا على الانفتاح الإعلامي في الجزائري، وأشهد هنا للتاريخ أن هذا الرجل كان له دور كبير في إطلاق مبادرات الإعلاميين في ساحات العمل الإعلامي، من التلفزيون إلى الإذاعة إلى الصحف المكتوبة والانفتاح الذي حصل في نهاية الثمانينات، والذي أوجد"الشروق" وغيرها من الجرائد كان رجلا يستمع ويحترم آراء الآخرين ويفتح باب الحوار معهم، وحين يسأل يستمع جيدا، وكان في كل مرة تتركز مطالبنا على أساس أنه لا يجب اعتبارنا "سياسيين" وأننا "إعلاميين" وفقط. قلت إن الشاذلي كان له الفضل في الانفتاح الإعلامي والسياسي، ومقابل ذلك كثيرون هم الذين يحمّلون الشاذلي مسؤولية الفوضى التي عاشتها الجزائر طيلة عشرية كاملة؟ هذا جانب سياسي أتحفظ عليه، ولكن أريد أن أسأل هؤلاء الذين يقولون هذا الكلام:"هل سارت التجربة إلى منتهاها" الأشياء بخواتمها ولذلك أذكر جيدا أنه قال لنا في آخر مؤتمر صحفي أجراه في سبتمبر 1991 وأقول في مؤتمر صحفي لرئيس الجمهورية ممكن أنني لا أذكر أن بومدين كان يعقد مؤتمرات مع الصحافة، ولكن الشاذلي كان يفعل ذلك، قال "أنتم تقولون إن هذه لعبة سياسية وأنا أعرف أن كل لعبة لها قوانينها، أنا سأحترم قوانين اللعبة وسأسير بهذه اللعبة إلى منتهاها"، فهل وصل الرئيس الراحل باللعبة إلى منتهاها؟ أنا أشك في ذلك ! وهذا مسجل. كإعلامي، هل تعتقد أن الرجل ظلم، لو تحدثنا عن الطريقة التي أقيل بها مثلا؟ أتفادى الأحكام وأفضل التحفظ عن الرد، وكما قالها الشاذلي بن جديد بنفسه توجد قواعد لعبة وأفضل احترامها، وأسير بها إلى منتهاها، هذا كان قراره وسياسته وبالتالي: "هل هناك نتيجة لهذه السياسة فنحاسب عليها، أم أن هذه السياسة لم تنتج بعد النتيجة وقطعنا الطريق على النتيجة". نعود إلى مغادرتك للجزائر سنة 1992 باتجاه دول الخليج ما الدافع وراء مغادرتك للتلفزيون الجزائري؟ كانت بداية رحلتي نحو لندن، لقد أحببت هذه المهنة وأصبحت كل حياتي، ومجال أجد فيه كل متع الدنيا، عملت كرئيس تحرير، معد برامج، مقدم وباحث وبأجرة صحفي، وكانت هذه المتع كلها تعوضني عن كل شيء، ولذلك لم يخطر ببالي أن أغادر البلد يوما، خاصة وأن أبنائي يدرسون في المدرسة الجزائرية، ولكنني أقولها "أنا اقتُلعت من الجزائر"، أنا "اغتلت ثلاث مرات" في 48 ساعة، وأفضل أن لا أتحدث عن الموضوع. هل كنت مستهدفا من قبل الإرهابيين؟ نعم. هذا يعني أنك هربت من الموت؟ لم أهرب من الموت ولكن الموت هو الذي هرب مني، والمهم أنني لم أختر مغادرة التلفزيون، ولكنني أجبرت على ذلك، التحقت بقناة "أم بي سي" التي كانت قد فتحت حديثا، وصلت إلى هناك يوم الثلاثاء صباحا، وبث تقرير يوم الخميس بصوتي في"أم بي سي"، يوم الجمعة وصل فاكس إلى قناة "أم بي سي" من إدارة التلفزيون الجزائري، يطلب فيه القائمون على التلفزيون الجزائري من إدارة تلفزيون "أم بي سي" عدم توظيفي ويشتكون إخلالي بعقدهم وهددوا فيه باللجوء إلى القضاء، وهو الأمر الذي استغربت له كثيرا، صحيح أنني كنت أعمل في مؤسسة التلفزيون الجزائري، ولكن لا أملك أي عقد يمنعني من الالتحاق بأي تلفزيون آخر، أرسلت استقالتي بعدما غادرت من التلفزيون العمومي وبقيت في"أم بي سي" هناك إلى غاية أن سافرت إلى الخليج. كيف كانت تجربتك في الخليج مقارنة بالتلفزيون الجزائري؟ العمل في تلفزيون بلدك والعمل عند الآخرين يختلف حتى وإن كانت عقيدتي المهنية هي ذاتها، فقد أشرفت في الخليج على تأسيس أول مركز أخبار في العالم العربي"أبو ظبي نيوز سنتر"، وإذا كنت أعمل في التلفزيون الجزائري 14 ساعة، فقد كنت أعمل هناك نفس ساعات العمل، كانت تجربة جميلة للظهور والانتشار، وأحب أن أشير إلى أننا نحن الجزائريين كنا نحظى باحترام استثنائي من طرف رئيس مجلس إدارة الشركة، وهو الشيخ عبد الله بن زائد الذي أصبح وزير الخارجية الإماراتي. هل تعتقد أن كل الإعلاميين الذين غادروا الجزائر في التسعينيات غادروا هروبا من الإرهاب؟ يوجد جيلين من الذين رحلوا من الجزائر، جيل هرب من الظروف التي واجهتها أنا شخصيا من بينهم مراد شبين، كمال علواني، محفوظ بن حفري وجيل ثاني جاء بعد الألفية، وبغض النظر عن الدافع المادي أعتقد أن هناك دافع ومحفز مهني وهو تحقيق الذات، والياس زرهوني مثلا كان طبيب أشعة عادي في الجزائر، ولكني التقيته في أمريكا وأصبح يدير معاهد الصحة هناك بميزانية تقدر ب 30 مليار دولار ويدير 11 ألف باحث في أمريكا، ولهذا أحب أن أقول إن بعض المجتمعات تمنحك الفرصة لأن تكون ما تشاء من خلال الإمكانيات التي تمنحها لنا. هل تعتقد أن السياسة التي يسيّر بها التلفزيون العمومي هي التي هجرّت الصحفيين؟ أعتقد أن مبدأ تكافؤ الفرص في المنافسة مطلوب، أذكر أنه كان وزير إعلام جزائري ويتعلق الأمر بناصر مهل سألوه عن عدم إجراء حوارات كبيرة فرد عليهم قائلا:"نحن لا نملك صحفيين"، حين يحكم الوزير على هؤلاء الصحفيين بأنهم غير كفء فهذا غير معقول، السؤال المطروح، هل حصلوا على فرص لإثبات ذواتهم؟، هل خلقت بيئة لدعم الصحفيين والتلفزيون معا؟، هل أعطيتهم فرصة؟، ولهذا فأنا أعتقد أنه عندما يأتيني وزير اتصال ويقول "ماعنديش باه" فهذا تجني على مؤسسة فيها 700 صحفي، حرروا الإرادات وحرروا الإدارت التي تفهم المهنة وستجدون أن هذا التلفزيون الذي يوصف الأن ب"اليتيمة" سيعود له دوره المخطوف منه. تقييمك لواقع الإعلام في الجزائر؟ أنا لست بموقع من يقيّم أو يحكم، أنا فقط أشاهد، التجربة الجزائرية في حقل الإعلام بروافده المختلفة كانت مبكرة جدا مقارنة مع الدول الأخرى، فهذه التجربة لو تركت وتم تأطيرها، لكنا من بين الدول الرائدة في هذا المجال، في 1992 كنا نملك مجلس أعلى للإعلام ومجلس أخلاقيات المهنة، ولكن التجربة تم اختطافها، أتحدث هنا عن بالنسبة للتلفزيون والإذاعة، بينما نجد أن الصحف استمرت وقاومت وتمسكت وظلت، ولكن دعيني أقول أن حتى الممارسة في الصحافة المكتوبة مازالت غير مؤطرة لا توجد سلطة ضبط، فالإعلام الجزائري كانت بداياته جميلة جدا، والآن الانفتاح الإعلامي الذي حدث ما الذي حال ويحول دون أن تكون القنوات الجزائرية جزائرية المنشء والهوية، لماذا نملك 39 قناة موطنة في الخارج؟، عندما عدت إلى الجزائر قابلت أحد وزراء الإعلام وحدثته عن رغبتي في فتح قناة فقال لي أهلا وسهلا وسألني إن كنت قد اطلقت المشروع، فقلت ليس بعد، قال لي"أطلقها ثم نتحدث"، فقلت معالي الوزير هل نفتتحها في تونس لأنني لن أتمكن من فتحها في الجزائر، فقال لي الأمر يتعلق بقوانين الدولة، المشرع يجب أن يكون سباقا في استشراف أي أمر يحدث، وبالتالي فهو يهيىء الإطار لميلاد الأشياء، لا أن يأتي لإضفاء الشرعية على أشياء قد تكون أنتجت بشكل خطأ، وبالتالي فإن قوانين الإعلام في الجزائر كان يجب أن تكون سباقة على خلق هذه المؤسسات وعندما تولد هذه المؤسسات تأطر بهذه القوانين، ولكن للأسف نجد أن هذه القنوات الوطنية معتمدة كمكتب مراسل أجنبي والباقي ينشط بشكل غير قانوني، وقانون السمعي البصري صدر في شهر مارس 2014 من المفروض أن يعمل به منذ تاريخ صدوره، هل عملنا به ونحن نشارف على نهاية 2016 لماذا؟. عدتم إلى البلد هل تنوون الإقامة فيه بشكل دائم؟ جئت بنية أن أضع خبرتي المتواضعة بين أيدي الأجيال الجديدة، سواء عن طريق تأسيس مؤسسة خاصة أو عن طريق الإسهام في المؤسسات الموجودة من بينها التلفزيون الجزائري الذي يملك دينا كبيرا علي، وبما أنني مستشار محاضر في اتحاد التلفزيونات العربية فقد تلقيت دعوات من كل دول الاتحاد للاتحاق والعمل في تلفزيوناتها إلا من الجزائر بلدي، وأحب أن أشير إلى أن الذين خرجوا من التلفزيون العمومي شئنا أم أبينا يملكون رصيدا كبيرا في حقل التجربة الاعلامية، تذهبين إلى"فرانس 24" تجدين التأطير جزائري، في الحرة، في العربية، في الجزيرة كذلك، لماذا لا يستفيد التلفزيون الجزائري من هذه التأطيرات وهم مستعدون لخدمة وطنهم والعودة للعمل في التلفزيون الذي كوّنهم، ولكن مرة أخرى لا توجد فرص للعمل، أنا شخصيا مستعد للعودة والعمل في التلفزيون الجزائري ليس من موقع المدير، ولكن من موقع المهني الذي يريد أن يقدم خامته المعرفية بلا جزاء ولا شكور. ألم تتلق أي عرض؟ سنة 2008 عرض علي لأكون مدير عام التلفزيون الجزائري من طرف أحد الوزراء في الدولة، وكان لي شرطا واحدا، وهو أن أعمل وفق ما أعرف ولا أحد يتدخل في عملي وهذا سبب رفضي.