المطلوب اليوم في الجزائر هو ألا نقف عند حد التشخيص والبكاء على واقع كارثي يكاد يتكلم، بل يجب أن نمر لوصف العلاج، هكذا كتب إلي بعض القراء ردا على مقال الإثنين الذي انتقد التعديل الدستوري المؤدي لشخصنة السلطة. ولكن أي علاج؟ فالمجتمع لم يعد يحتمل الحلول المكلفة جدا. ففي أحداث أكتوبر 1988 سقط قرابة 300 شاب جزائري ضحية المواجهات مع السلطة، وكلفت الأزمة الأمنية والسياسية التي اندلعت في بداية التسعينيات قرابة 200 ألف قتيل، و20 مليار دولار خسائر في الاقتصاد والبنى التحتية، وعزلة دولية، ومجتمع منهك نفسيا واجتماعيا.. * * حقيقة، لما تقابل النخبة (أحزاب، ناشطون في المجتمع المدني، صحفيون، محامون، نقابيون، نخبة علمية وثقافية واقتصادية...) الوضع الحالي بصمت مطبق فهذا يعني، ببساطة، خيانتها للمجتمع وتخليها عن مسؤوليتها الأخلاقية والتاريخية. يفيدنا التاريخ أن النخب هي التي تقود التغيير الإيجابي للأمم، والدول الناجحة هي التي وقفت نخبها في وجه تسلط الحكام ورفضت المشاركة في جرائم تزكية الفساد. * لكن هناك أسئلة جوهرية تتطلب إجابة سريعة وهي: كيف نغير؟ ما العمل؟، ما هي القوى التي يمكن أن ترفع شعار التغيير وتدافع عنه وتجسده في الميدان؟ ما هو وزنها مقارنة بهيمنة قوى الفساد على الساحة السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟ ما هي كلفة التغيير؟ ما هي حظوظ نجاحه في ظل الظروف الحالية حتى نصل إلى دولة قانون تمنع العودة للفوضى القائمة؟ وأخيرا، هل التغيير ممكن في ظل نظام سياسي تسلطي يحرص على إظهار واجهة "ديمقراطية" صورية، لكنه يتحكم في كل شيء، نظام مغلق يمنع التعبير الحر والمنافسة السياسية ويحتكر كل شيء، قهر قوى التغيير والنخب، وأقنع آخرين بقبول الريع، نظام يتحكم في كل شيء ويسخر كل شيء للفاعلين فيه وزبائنهم؟ * شيء إيجابي أن تترسخ قناعة لدى الجزائريين مفادها أن تغيير الوضع الحالي بات أكثر من ضرورة، "لقد بلغ السيل الزبى" كما قالت العرب (المفارقة هي أنه حتى الذين هم في معمعة النظام يعتقدون أنهم في انسداد، لكنهم لا يجرؤون على البوح بذلك خوفا على مناصبهم..). * مؤخرا قال سيد أحمد غزالي: "إن تغيير النظام هو قضية حياة أو موت بالنسبة للبلد". ("الوطن" عدد 20 نوفمبر 2008). ويتحدث عن "ثورة هادئة". لكن كيف تتم؟ رئيس الحكومة السابق يقف حائرا أمام السؤال، لأنه يرى نفسه، والمجتمع ككل، مجردا من وسائل إطلاق الثورة التي يتحدث عنها، ويقول إنه أنشأ حزبا سياسيا لهذا الغرض (غزالي أسس "الجبهة الديمقراطية" التي رفضت السلطة اعتمادها)، قصد التوجه إلى الشعب وإفهامه بأن الأمل موجود، وبأن يثق مرة أخرى في السياسة كأسلوب للتغيير. * لكن غزالي يرى أن هذا غير متوفر اليوم: "عندما تكون أمام نظام يمنعك ويستعمل كل الوسائل: قوة الدولة وعنفها ومواردها المالية وعدالتها، ماذا يمكنك أن تفعل؟ الشيء الوحيد المتاح أمامنا هو ما نقوم به الآن: الكلام، وحتى هذا غير متاح لنا إلا من خلال بعض القنوات فقط؛ فنحن ممنوعون من التلفزيون والراديو"، يقول غزالي. * رئيس الحكومة الأسبق مولود حمروش يتحدث بدوره عن الغلق المحكم للحياة السياسية، ويردد دائما "اللعبة مغلقة" إلى درجة أنه لا يعتقد بوجود مبادرة من شأنها قلب المعادلة، فلم يكلف نفسه تأسيس حزب سياسي، لأنه يعرف سلفا أن السلطة ستمنعه أو تحاصره. بصيص الأمل الذي يحتفظ به "ابن النظام" هو أن يحدث تلاقي بين القوى الإيجابية داخل النظام مع كافة القوى الإيجابية خارجه، كي تبدأ معركة التغيير الشاقة. * بينما تحدث أحمد بن بيتور، رئيس الحكومة السابق، عن مرحلة انتقالية تصل إلى خمس سنوات، تلتقي خلالها مختلف القوى السياسية في حوار لأجل تحديد أهداف واضحة تتخللها انتخابات حقيقية.. لكن كيف يمكن أن تلتقي هذه القوى؟ وهل يرجى من نظام أن يرعى مسارا سياسيا يجرده القائمون عليه من النفوذ والامتيازات والسلطة التي يحتكرونها اليوم؟ * الذي ينظر إلى ما يطرح في الساحة الجزائرية يرى بأن الأبواب موصدة. بالطبع، لا مجال للمراهنة مجددا على الخيارات العنيفة والراديكالية؛ فلقد كانت تجربة "الفيس" وما تلاها من إرهاب مريرة، وسوف لن يغامر المجتمع بتجربة انتحارية مماثلة، نفس الشيء بالنسبة لخيار القوة في شكل العروش، أي احتلال الطريق، لقد تمكنت السلطة من احتواء حركة العروش رغم المطالب السلمية والديمقراطية التي رفعتها ورغم قدرتها التعبوية التي أخافت النظام فعلا، لكن لم يعد أبريكا قادرا على جمع ثلاثين شخصا حوله في تيزي وزو. * نفس الشيء يقال عن نقابات مثل نقابة سيدي السعيد، وأحزاب مثل حماس والعمال، أو بعض المنتسبين للنخبة، لقد أصبحوا جميعا يعيقون التغيير، فهم قوى انسداد بدل أن يكونوا قوة تغيير، لأنهم ارتبطوا مصلحيا وريعيا بالنظام. كما لا يمكن التعويل على الخارج، فالدول الكبرى تنشد مصالحها حتى مع الأنظمة الأكثر ديكتاتورية، فكوندليزا رايس زارت مؤخرا دول المغرب العربي ووصفت قادتها جميعا بالحكماء، والكل يعرف عبارة شيراك الشهيرة حول تونس عندما قال: "الديمقراطية هي الخبز". * قد يبدو أمر التغيير مستحيلا، لكن "السياسة هي فن الممكن" كما يقال. أذكر أن فيديريكو مايور، المسؤول السابق لمنظة اليونسكو، قال في محاضرة له بالجزائر سنة 2005 إنه من الضروري حذف كلمة مستحيل من القاموس، ضاربا مثل نيلسون مانديلا، الذي سجن قرابة 28 سنة ولم يكن أحد يتصور أنه سيخرج من السجن ويزول الأبارتايد ويصبح مانديلا رئيسا. وحمل أوباما، أول رئيس أسود للبيت الأبيض، شعارا مماثلا: "نعم نستطيع" (Yes, we can). * وعليه، يبدأ مسار التغيير من النقطة التي تشعر فيها ما تبقى من قوى حية وأحزاب ورجال السياسة ونخب مختلفة بأن حالة العبث الحالية كارثية وسترهن مستقبل المجموعة الوطنية. إن عدم انخراط هذه القوى في الأنساق التي تبنيها السلطة ورفضها لها يعني تسجيل نقاط إيجابية لصالح توسيع رقعة الوعي بضرورة التغيير، وهذا إيجابي جدت. من جانب آخر، ينبغي استغلال القنوات المتاحة للتعبير ورفض الأمر الواقع وتعرية الاختلالات الموجودة كي يتم إحياء الأمل في إمكانية التغيير السياسي السلمي الذي يأتي من المجتمع، وللصحافة والنقابات والأحزاب دور كبير هنا، فعهد الثورات والانقلابات لا حظ له في عالم اليوم، وبالتالي أحسن طريقة لتغيير ديمقراطي هادئ أن تقتنع القوى الإيجابية داخل النظام بأن الخلاص الوطني يمر عبر مد يدها للقوى الإيجابية في المجتمع. عند هذه النقطة نقول إن التغيير قد بدأ. * فتح هذه الورشة لا يعني الخروج منها بسلام؛ فلا وجود لوصفة عالمية واحدة للانتقال من نظام تسلطي نحو نظام ديمقراطي، لكن لما تقتنع السلطة بفتح مجالات التعبير للمجتمع فهذا سيسمح ببروز النخب التي تحمل لواء التغيير وسيموت المتطفلون سياسيا، لأنه لا أفكار لديهم، وسيتم خلق ديناميكية في وسط المجتمع عبر وسائل الإعلام الحرة بحيث سيقتنع أن تغيير حاله بالطرق السلمية ممكن. أما الانتخابات فستصبح وسيلة فعالة للتغيير وتجديد النخب، ولن تبقى وسيلة روتينية لمنح الشرعية للديكتاتورية. * من جانب آخر، ينبغي الاتفاق مبدئيا على احترام دولة القانون وحماية الديمقراطية والتداول على السلطة ونبذ كل أشكال العنف والإرهاب لتفادي أي تطرف من أي حزب أو السلطة الحالية. ومع مرور الوقت سنواجه تحديا آخر، ألا وهو ترسيخ الديمقراطية؛ أي التخلص من الثقافة السياسية المبنية على الإخضاع والتسلط والانتفاع من المال العام كي تحل محلها ثقافة المشاركة ودولة القانون والتداول على السلطة والمحاسبة على تسيير شؤون الدولة والمسؤولية. * هذه المقاربة ليست وصفة سحرية، لكن أحسن من أن يعتقد بعضنا أن النظام في شكله الحالي حتمية، لأن المهم هو المرور كي نحل المشاكل الحقيقية للجزائريين، التي تبدي السلطة الحالية عجزا فضيعا في التعامل معها. * *