من المبكر جدا الاستبشار بخروج العراق من محنته رغم النتائج المبشرة لانتخابات مجالس المحافظات، فالاحتلال ما زال جاثماً على صدور الشعب العراقي، وإن خرج، حسب وعود الرئيس الأمريكي الجديد أوباما، فإن الاتفاقية الأمنية التي أصر الرئيس المنصرف جورج بوش على توقيعها مع الحكومة العراقية غصباً ستكون بمثابة احتلال مقنع لبلاد الرافدين إلى حين. * كما ما زال مبكرًا أيضاً التهليل للديمقراطية العراقية المزعومة، فكلنا يعلم أن الاحتلال وأعوانه العراقيين الذين عادوا إلى العراق على ظهور دبابات الجيش الأمريكي جاؤوا لتخريب البلاد ونهبها وشرذمتها إلى مكونات ما قبل نشوء الدولة، وليس لدمقرطتها والنهوض بها. وقد رأينا كيف عاد العراق إلى القرون الوسطى عندما تولت أمره كهنوتات ومرجعيات دينية مشبوهة بمباركة أمريكية وإيرانية واضحة بعد أن كان العراق رمزا للحداثة والتقدم الاجتماعي والاقتصادي والفكري والعلمي. * لكن كما يقول المثل العربي: ما لا يدرك كله لا يترك جله. والغريق يتمسك بقشة. بعبارة أخرى، لا بد من الترحيب بأي تحسن أو بارقة أمل حتى لو كانت ضئيلة جدا في العراق المحتل، وحتى لو جاءت من عتلات الاحتلال نفسه. صحيح أن لا ديمقراطية تحت حراب الغزاة، وصحيح أيضاً أن الذي يحكم العراق فعليا هم المحتلون، وليس أذنابه المعينين. وصحيح أن رئيس الوزراء نوري المالكي من أزلام اليانكي الأمريكي وأدواته إلى حد أنه عرّض نفسه لحذاء منتظر الزيدي كي لا يصيب سيده بوش في ذلك المؤتمر الصحفي التاريخي الذي شهد حادثة الحذاء الغراء. كلنا شاهد كيف رفع المالكي يده كحارس مرمى ليرد الضربة عن وجه بوش، مثله في ذلك مثل كل الأحزاب العراقية التي تعاونت مع الغزاة ومستعدة أن تذود عنهم، وأن تكون كالعجينة في أيديهم كي تحافظ على مكاسبها. إلا أننا، وللأمانة، يجب أن نعتمد مقاييس استثنائية عندما نجري مقارنات في عراق اليوم. فعندما نقارن توجهات جبهة المالكي، حتى وإن كانت مرسومة أمريكيا، بتوجهات جبهة عبد العزيز الحكيم وشركاه الذين يريدون أن يقسموا العراق إلى حارات وزواريب طائفية ومذهبية بائسة، ناهيك عن أن الحكيم طالب في الأيام الأولى من الحرب الأمريكية على العراق بتقديم مائة مليار دولار لربيبته إيران تعويضاً لها عن حربها مع العراق، نجد أن الرمد أفضل من العمى، وأن الكوليرا أهون من الفالج. * بكلمات أخرى، فإن الشعارات الانتخابية التي رفعتها لائحة المالكي والتيار الصدري، وفازت بموجبها بأغلبية الأصوات في انتخابات مجالس المحافظات، تبدو شعارات لا بأس بها مقارنة بالشعارات الطائفية الساقطة التي رفعها الحكيم وأمثاله. فقد أكد المالكي وحليفه الصدري في حملتهم على ثوابت ثلاثة هي: الحفاظ على وحدة العراق وعدم تقسيمه، وتعزيز الحكومة المركزية، وتأجيل البحث في الفيديرالية. وهي ثوابت، رغم كل مساوئ النظام الحاكم وعمالته، تستحق الثناء. * لقد حققت قائمة رئيس الوزراء نوري المالكي فوزا كبيرا في بغداد وكل المحافظات الجنوبية، باستثناء كربلاء، وتراجعت قائمة الحكيم، وسجل الأكراد دعاة تدمير العراق على أسس عرقية تراجعا كبيرا. وكان لافتا أن "قائمة شهيد المحراب" التابعة للحكيم والمبنية على أساطير وخرافات طائفية مفضوحة حلت في المركز الخامس في بغداد، بنسبة 5.4 في المائة فقط. * ويلاحظ أيضاً تراجع الحزبين الكرديين إلى المركز الثاني في ديالى (17 في المائة) والموصل (25 في المائة) بعدما كانا يشكلان نحو 50 في المائة من مجلسي المحافظتين. أما في صلاح الدين فقد سجل الأكراد التراجع الأكبر، إذ حلت قائمتهم في المركز السادس (4 في المائة)، بعدما كانوا يهيمنون على 15 مقعدا في مجلس محافظتها. * لقد أبرزت نتائج انتخابات مجالس المحافظات في العراق تقدما كبيرا لأنصار تعزيز سلطة الحكومة المركزية، وتراجعا كبيرا لدعاة المشاريع الفيديرالية والتقسيمية، خصوصا "المجلس الأعلى" بزعامة عبد العزيز الحكيم. وحسب التقرير المفصل لجريدة الحياة، فإن "نسبة النتائج المتواضعة التي حققها "المجلس الأعلى" تعتبر مؤشرا إلى انحسار مشروع إقليم الوسط والجنوب الذي يتوقع مراقبون أن يتخلى المجلس عنه بعد إحراز خصوم الفيديرالية في الجنوب نحو 90 في المائة من الأصوات، كقوائم المالكي والصدر و"العراقية" والمستقلين و"الفضيل * إذن نحن أمام وضع مبّشر على الأقل على صعيد التوجهات الشعبية، بغض النظر عما تريده أمريكا وبيدقها المالكي من خلال طرح شعارات مغلفة بالوطنية والعروبة لتسهيل مهمة الاحتلال. فإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الأوضاع المأساوية التي تعيشها البلاد منذ عام ألفين وثلاثة على صعيد محاولات التفتيت المذهبي والعرقي، لوجدنا أن نتائج انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة تنبؤ بعلامات إيجابية رغم كل محاولات التقسيم والفدرلة والشرذمة والتطويف والتمتذهب والتكريد. صحيح أن العراقيين بحاجة لعشرات السنين لإعادة الأمور إلى نصابها وإزالة آثار الاحتلال والعدوان والتخلص من أذنابه، إلا أنهم أثبتوا في الانتخابات الأخيرة، أنهم أقوى وأذكى بكثير من الكثيرين من قياداتهم المفروضة عليهم، وخاصة أصحاب العمائم السوداء والشراويل الذين كشروا عن أنيابهم منذ اللحظة الأولى لاحتلال العراق، فراحوا يدعون إلى شرذمة البلاد على أسس طائفية ومناطقية ومذهبية وعرقية بغيضة لا تمت للعصر بصلة. * فبينما كان المجلس الأعلى لما يسمى بالثورة الإسلامية في العراق يدعو، ويصارع لتقسيم البلاد على أساس فيديرالي مزعوم إلى ثلاث مناطق، جنوب ووسط وشمال، طمعا بمناطق النفط الموجود معظمها في القسم الجنوبي من البلاد، كان الأكراد يقاومون قانون مجالس المحافظات، لا بل اعتبره الزعيم الكردي مسعود البرزاني مؤامرة ضد الأكراد، لا لشيء إلا لأنه يحول دون تحقيق الحلم الكردي القاضي بتمزيق العراق إلى كانتونات وباندوستانات. * لا شك أن ذوي العمائم والباشمات شعروا بخيبة أمل كبرى بعد الإعلان عن نتائج انتخابات مجالس المحافظات، فقد انتصر عليهم الشعب العراقي، فتحطمت مشاريعهم الشيطانية على صخرة الوعي والتمسك الشعبي بوحدة التراب الوطني مهما اشتدت مؤامرات التقسيم تحت حجج فيديرالية قميئة ومفضوحة. * سحقاً للانفصاليين رافعي شعارات التكريد والفرسنة! وطوبى للشعب العراقي القابض على جمر وحدة الوطن أرضا وشعبا!