بيع المنتجات بالطرْق على البيوت لم يكن مهمة اخترْنَها، بل اضطررن إلى ممارستها سعيا لتأمين المصروف اليومي وهروبا مؤقتا من شبح البطالة الذي يتربص بهن وهن الجامعيات، لكنهن سرعان ما يتخلين عنها بسبب المخاطر التي يواجهنها... اعتداءات وإهانات وتحرشات من طرف الزبائن وحقوق مهضومة من صاحب المؤسسة... هكذا هي طبيعة يوميات المساعدات التجاريات أو البائعات المتنقلات. * التقيناها في أحد الأحياء الشعبية شرق العاصمة بعد تحديد موعد مسبق لنقف على يومياتها في بيع المستحضرات التجميلية، كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة صباحا عندما بدأنا جولتنا بولوج أول عمارة قريبة منّا في ذلك الحي. * وفي طريقنا سألنا نبيلة، طالبة وبائعة متنقلة منذ سنة، عن بداية حكايتها مع هذه المهنة فأجابت »قرأت إعلانا نُشر بجريدة عن مؤسسة جزائرية خاصة تبيع مواد التجميل تبحث عن ممثلين تجاريين وبائعات فتوجّهت إليها ولم يشترطوا عليّ سوى المستوى الجامعي والهيئة الجيدة وتم قبولي فورا وباشرت العمل في اليوم الموالي دون أن أخضع لتكوين لازم«. * طرقت نبيلة باب المنزل الأول ثلاث دقات خفيفة قبل أن تدق الجرس »لا أحد يجيب، لابد أن من في المنزل يعمل أو يدرس«. اتجهت إلى المسكن الثاني وطرقت الباب قبل أن يجيب صوت امرأة عاليا »من؟«، »أتريدين شراء بعض المستحضرات التجميلية، إنها...«، فقاطعتها السيدة بسرعة دون أن تفتح الباب »لا، لا شكرا، لا أحتاج«. لتعلق نبيلة بابتسامة تكاد تكون مصطنعة »ما شاهدتموه الآن هو أحسن الحالات التي تصادفني، إنها أكثرهم لباقة، على الأقل شكرتني وإن لم تكلف نفسها عناء فتح الباب«. * * يوميات مع السب والإهانات وطمع ضِعاف النفوس * وطوال جولتنا في تلك العمارة كان أصحاب المنزل سواء غائبين أو لا يفتحون، لكن نبيلة لم تيأس وتوجهت إلى عمارة مجاورة »إن شاء الله نجد رزقنا في هذه العمارة«. لكن أملها سرعان ما تبدد عندما فتحت لها عجوز في الستينات وتحدثت معها بخشونة »كفوا عن إزعاجنا... ألا تتعبون من طرق الأبواب... ماذا أفعل بالتجميل، ألا ترين أنني عجوز« لتغلق الباب في وجوهنا. * نبيلة تنفست الصعداء وعلقت »هذه هي الخبزة«، نتعامل مع كل الناس والعقليات، بعضهم يصرخ في وجوهنا وآخرون يشتموننا وعادة ما تتكرّر العبارات ذاتها »إن احتجتُ لشيء، فإنني أعرف السوق جيدا« أو »السوق موجودة، كفوا عن إزعاجنا«. والأكثر من ذلك أن الكثير من النساء »تشكك في أخلاقنا ويطعنّ في شرفنا«. * واصلت سيرها وهي تجر حقيبتها الصغيرة المملوءة بمنتجات أجنبية وطرقت الباب الموالي، لكن شابا في العشرينات فتح الباب واستقبلها بابتسامة لم نحس أنها بريئة، لكنه سرعان ما سحبها عندما أيقن أنها ليست وحدها قبل أن يقول "للأسف، أنا وحدي هنا وليس هناك امرأة يمكن أن تشتري... ألا تملكين شيئا للرجال؟". اعتذرت نبيلة بلباقة وطلبت أن نخرج من العمارة »أخاف مثل هؤلاء الشباب، من الممكن أن يتصل بأحد أصدقائه أو جيرانه ليعتدوا علي أو يسلبوني المال، أعرف أن عملي مخاطرة لكنني مضطرة لأستطيع إكمال دراستي«. * * شباب يعتدي عليهن لسلبهن السلعة والمال * المتحدثة روت لنا في هذا السياق معاناة الفتيات أمثالها مع قلة الأمن وانعدامه أحيانا »أتذكر جيدا الصدمة التي مرّت بها زميلة لنا عندما قصدت ذات يوم مدينة البليدة لتبيع ما عندها، ولما همّت بدخول عمارة أحد الأحياء الشعبية تربصت بها مجموعة من الشباب الطائش وهاجمتها واعتدت عليها بالضرب قبل أن تسلبها ما كان بحوزتها من مال ومنتجات، والحمد لله أن الأمر توقف عند هذا الحد ولم يتعداه إلى اعتداء جماعي عليها. ومنذ ذلك الحين توقفت عن ممارسة هذا العمل وتبعتها زميلات لها أيضا خوفا من اعتداءات مماثلة، في حين قررت أخريات العمل في جماعات«. * ولم تفوّت نبيلة الفرصة لتروي لنا قصة أخرى لزميلة لها كادت أن تفقد حياتها »كانت في أيام عملها الأولى وكانت »نيّة« بعض الشيء، ولما طرقت أحد الأبواب فتح لها شاب وطلب منها الدخول إلى البهو في انتظار أن ينادي أمه التي كانت بالحمام على حدّ قوله، وبعدها أغلق الباب وكاد أن يعتدي عليها لولا صراخها الذي ملأ العمارة، فخاف الشاب وفتح لها الباب وأخرجها وهو يسبّها ويضربها«. * * هامش ربح ضعيف والتأمين الغائب الأكبر * عمارة ثالثة وأمل آخر في أن تبيع بعضا ممّا تحمل، وبعد أربع محاولات فاشلة نجحت أخيرا نبيلة في أن تبيع لآنسة ماكثة بالبيت قارورة مزيل الروائح ولسيدة أخرى تشكيلة مواد تجميل تجاوزت قيمتها الألف دينار، هامش ربحها فيها 100 دينار، مبلغ ضئيل لكنه أحسن من لا شيء على حد قولها، فصاحب المؤسسة يحدد سعرا جاهزا للمنتوج ويطلب منا إعادة بيعه ووضع السعر الذي نريد على أن نأخذ الفرق بين السعرين كهامش ربح، لكن المشكلة أن صاحب المؤسسة يضع سعرا يضمن من خلاله هامش ربحه وبذلك من الصعب أن نزيد على هذا السعر لأن المشتري يجده غاليا ويرفض شراءه، عكس ما هو معمول به في الخارج حيث هامش الربح واضح ويُقدر بنسبة معينة من السعر الإجمالي للسلع المباعة، كما أن هذه المهنة مكرسة منذ زمن هناك وليست جديدة تثير فضول الزبائن وطمع ضعفاء القلوب منهم كما هو حاصل في الجزائر«. * وعما تجنيه شهريا من عملها هذا قالت »ما بين 5 آلاف و10 آلاف دينار شهريا، بحسب عدد الجولات التي أقوم بها، وهو مصروف يكفي متطلباتي اليومية كطالبة، لكنه لا يضاهي التعب الذي أتكبّده والمخاطر التي أواجهها، خاصة وأن وسائل التنقل لا يضمنها دائما صاحب العمل ولا يدفع حتى مقابلها، فتجدنا نصرف ما نكسب في الحافلات وسيارات الأجرة«. * نبيلة اشتكت أيضا من مشكل التأمين »أعرف أن عملنا هذا غير قانوني، لكننا نعاني عدم تأميننا ونحن أكثر الناس عُرضة للمخاطر لأننا نجوب الشوارع والطرقات يوميا«. * الساعة تقارب منتصف النهار وعلى نبيلة أن تعود إلى المنزل لتأخذ قسطا من الراحة قبل أن تستأنف جولتها في المساء، بعد القيلولة، متأمّلة أن يكون حيّ آخر فاتحة رزق عليها وجولة خالية من الإهانات وسوء التقدير. *