صورة من الارشيف أعادت أحداث معركتي جرمان بالعلمة وبريش بأم البواقي الذاكرة إلى الصراع العروشي الذي شهدته الجاهلية الأولى ليعود هذه المرة في ثوب قديم متجدد لا حديث معه إلا عن الأرض والعقار اللذان ظلا وصمة عار في جبين الإدارة الجزائرية التي أهملت هذه القنبلة الموقوتة ولم تجد لها أي تسوية منذ عهد الاستعمار. * فبالنسبة لأحداث جرمان بالعلمة فإن سبب الصراع بين العائلتين يعود إلى جدار بني على أرض تابعة للدولة، لكنه تحوّل بقدرة قادر إلى جدار برلين بعدما تم قطع الطريق على الجيران وأما ببلدية بريش بأم البواقي فإن المواجهات الدامية سببها عبور قطيع من الأغنام لأرض لازالت محل نزاع بين عرشين. وبين الجار الفاصل والأغنام تبزغ إشكالية العقار في الجزائر، خاصة في المناطق الريفية التي لا تكاد تخلو من النزاعات ولازالت تعايش فكرة الأرض مقابل السلام، وهي الظاهرة التي تراكمت إلى درجة التعفن دون أن تتدخل البلديات ومصالح مسح الأراضي وأملاك الدولة من أجل الفصل في هذا الملف الشائك الذي أسال الدماء وقطع الأرحام بين العديد من العائلات الجزائرية التي تناحرت في أكثر من مناسبة بسبب شبر من الأرض. وحتى جهاز العدالة في بلادنا وقف عاجزا أمام هذا البعبع الموجود في الأرياف، فهناك عائلات منذ سنين وهي تتنازع في المحاكم بسبب الأرض وإلى يومنا هذا لم يتبين لها الأخضر من اليابس ولم تتوصل إلى ترسيم الحدود بين الإخوة الذين تحولوا إلى أعداء بعدما فرق بينهم التراب. وهناك عائلات سكنت في المحاكم بسبب هذا النزاع الذي بلغ أمده عشرات السنين ولا يوشك أن يعرف طريقه إلى الحل حتى يبعث من جديد وأغلبية الملفات اصطدمت بإشكالية تنفيذ الأحكام القضائية التي ظلت معلقة لاستحالة تجسيدها على الأرض. وحتى الخبراء المختصين في المسح وقعوا في هذا الإشكال ولم يتمكنوا من تقسيم الأراضي بين أصحابها لأن عدم الرضا يبقى دوما سيد الموقف، وفي بعض الأحيان أصبحت حياة هؤلاء الخبراء في خطر بسبب أهل الدوار الذين لا يسمحون لهم بالقيام بعملهم شأنهم شأن المحضرين القضائيين الذين تعرضوا هم أيضا للمواجهة من طرف الأهالي المعترضين على التقسيم. وإذا كان الشرق الجزائري في السابق يتبع عقاريا لمحافظة قسنطينة منذ عهد الاستعمار فإن كما هائلا من العقود والوثائق التي تثبت الملكية للأرض لم تصل إلى أصحابها وضاعت أغلبيتها مع أرشيف المعمر، كما أن الثورة الزراعية التي أممت فيها الأراضي في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، تسببت بعد انقضائها في إحداث نوع من الفوضى إثر إعادة الأملاك إلى أصحابها وضاعت حقوق البعض بسبب التوزيع العشوائي الذي لازال هو الآخر محل نزاع إلى يومنا هذا. مما يعني أن الأرض التي لها قدسيتها عند الفلاح الجزائري لازالت لم تحظ بالعناية الكافية من طرف مصالح الدولة التي احتارت من أين تبدأ في معالجة هذا الملف لتبقى الضغينة والأحقاد تملأ قلوب المتخاصمين لتأخذ في بعض الأحيان أبعادا خطيرة كتلك التي شهدتها العلمة وأم البواقي، وكل ذلك بسبب عجز الإدارة الجزائرية التي انسحبت من الميدان وتركته للمتنازعين على مدرا السنين.