كان يكفي أن يخسر فريق مصر لكرة القدم مباراة مع نظيره الجزائري كي يدخل البلد كله في نكسة شبيهة بنكسة هزيمة 67 أمام إسرائيل. لكن تبدو مصر هذه المرة أمام نكسات؛ النكسة الأولى هي أنه بعد أكثر من أربعين سنة من هزيمة 67 لاتزال مصر الشعبية والرسمية تتصرف مع الهزيمة بنفس الغباوة وبذات الدرجة من التخلف، هذا إذا رفعوا خسارة مباراة كروية مع الأشقاء إلى درجة الحرب ضد إسرائيل. * * شخصيا، أشعر بالحزن لحال مصر الشقيقة التي اعتقدنا أنها قوى إقليمية لها وزنها في إنجاز رهاناتنا الاستراتيجية، لكنها لا تزال تعيش على الأوهام وتستثمر القوى المسيطرة فيها في استغباء الجماهير وتنويمهم والزج بهم في معارك وهمية بعيدا عن المعركة الحقيقية، التي هي حق الشعب المصري في سلطة تمثيلية وفي الحرية والديمقراطية والتنمية. علما أن هذه المعركة هي معركة كل العرب والجزائريين أيضا ولقد أثرناها في هذا الركن كم من مرة بجرأة لا نجدها في الإعلام المصري. * ما أشبه اليوم بالبارحة. بالأمس حملوا الهزيمة العسكرية لخونة وعملاء وحتى للسهرات الطويلة للفنانة أم كلثوم،،، واليوم كبش الفداء هو الجزائر، التي تجرّأت وكسرت "كبرياء مصر" المزعوم، في حين كان عليها أن تترك أم الدنيا تمثل العرب، فلا منازع لها على زعامة العرب!. * النكسة الثانية هي اختفاء صوت العقل والمنطق والاعتدال في مصر، سواء من جانب النظام أو من جانب الإعلام والنخب المستقلة؛ لقد تركت الساحة فارغة لمن يبيعون الأوهام للناس ويلمعون السراب، فجعلوا البلد كله يتخبّط كالثور الهائج لأجل مقابلة كرة. والسؤال المطروح هو: هل تدير السلطة في مصر القضايا الأخرى الهامة بنفس الكيفية؟ إن كان الأمر كذلك فهذا يدعو إلى حزن عميق. * شخصيا لقد تفاجأت كثيرا بالهراء الذي رأيته في قنوات تلفزيونية مصرية. لم أكن أتصور أن أشقاءنا يكتنزون في دواخلهم كل ذلك الشحن من الحقد تجاه الجزائريين، لأنهم فقط هزموهم في مباراة كرة القدم. "إقتلوا الجزائريين"، "الجزائريون تأهلوا لكن خسروا كرامتهم"، "مرتزقة إرهابيون..."، والمؤسف أن يصدر كلام من هذا القبيل من نجل الرئيس حسني مبارك. لكن يجب أن نسأل: لماذا يفعل الإعلام المصري والسلطة التي تحركه هكذا؟ * ماهو ملاحظ أن هذه المقابلة ربطت بأجندة سياسية تنطوي على أهمية قصوى بالنسبة للنظام المصري. هذا الأخير يرى في تأهل فريق كرة القدم إلى المونديال في جوان القادم فرصة لتمرير طبخة توريث السلطة لجمال مبارك وتسكين الوضع الداخلي المشتعل بفعل التدهور المعيشي والفشل الاقتصادي والقمع البوليسي؛ ومن ثم نفهم الشحن المكثف للمصريين لشهور من خلال قنوات خاصة مجنّدة لخدمة أجندة النظام البوليسي كانت هي الصوت الوحيد في مصر. ثم مهاجمة لاعبي الفريق الجزائري بمجرد وصولهم إلى القاهرة، وهي حادثة لم تسجل في تاريخ كرة القدم، ومع ذلك قابلها النظام المصري بمسرحية أقحم فيها عدالة البلد وضباط الشرطة ومسؤولين كبار زعموا أن اللاعبين الجزائريين كسروا الحافلة وأغرقوا أنفسهم في الدماء في سيناريو شيطاني لن يجرؤ على نسجه حتى محترفو كتاب السيناريو... القصد واضح وهو إخضاع اللاعبين الجزائريين والجمهور أيضا لإرهاب حقيقي وترويع نفسي، وهو ما تمّ فعلا، حتى يفقدوا القدرة على اللعب ويتم حسم التأهل على أرضية ملعب القاهرة بأربعة أو خمسة أهداف لصفر، وهكذا تظهر عظمة مصر وتتواصل حملات التنويم الرسمية وتنجز الأجندة المسطرة... * لقد انهار هذا السيناريو، لأن الفريق الجزائري كان قويّا رياضيا ومعنويا، كما فضحت وسائل الإعلام الأجنبية، وليس العربية، الكمين الذي نصب للفريق الجزائري في القاهرة. ثم انهار سيناريو الفوز في السودان وتبخّرت أحلام المصريين في المونديال ومعها أحلام عائلة مبارك و»إعلام الحرب« في إنجاز الأجندة المبيّتة وتحقيق المكاسب السياسية المنتظرة من المونديال. * منطقيا، كان ينبغي الرضوخ للأمر الواقع والقبول بالنتيجة رياضيا، لكن هذا أمر لا يخدم من كانوا وراء حملة الشحن الشديد للجماهير المصرية الذين أوهموهم أنهم أفضل شعب في العالم بعد التأهل للمونديال،،، وبالتالي كان ينبغي البحث عن كبش فداء جديد لامتصاص الهزيمة ومعالجة حالة الإحباط التي يعيشها شعب مغلوب على أمره. بسرعة تم اختلاق معركة وهمية جديدة؛ وهي قضية الاعتداء المزعوم على المناصرين المصريين في السودان، وكأن السودان تقع في الجزائر!، وهبت مصر "الشهامة" تدافع عن كرامة البلد وتتوعد السودان والجزائر بالعقاب إذا ما مسّت شعرة من "أولاد مصر"، واجتمع الرئيس مبارك بمجلس الأمن القومي رفقة كبار المسؤولين لدراسة هذا الأمر الخطير ومن بين الخيارات المطروحة قطع العلاقات مع الجزائر...!؟ كل ذلك تزامن مع حملة إعلامية مكثفة قالت في الجزائريين ما لم يخطر على لسان بشر، من قبيل تصوير الجمهور الجزائري بأنه يضم مجرمين وإرهابيين وحاملي سكاكين، بينما الجمهور المصري كالحمل الوديع ومتحضر و"كويس"...!؟ * لم يكن أمام النظام المصري، الذي خسر تمرير أجندته السياسية على حساب الجزائريين، من خيار سوى إكمال اللعبة التي بدأها إلى نهايتها، وإلا فسيجد صعوبة كبيرة في إفراغ ما شحن به 80 مليون مصري قبل أشهر. لكن ينبغي أن نتساءل عن الخيارات التي سيلجأ إليها النظام المصري لتسيير متاعبه الداخلية بعد أن تهدأ هذه العاصفة؟! * وهذا لاينفي استثمار السلطة في الجزائر في هذه المباراة سياسيا، فما خسره مبارك ربحه بوتفليقة. لكن الكرة هي مسكّن للجماهير وليست هي الحل المطلوب للمشاكل المعقّدة التي تشترك فيها مصر والجزائر. من جانب ثاني، أتمنى أن يستفيق أشقاؤنا في مصر من غيبوبتهم؛ هم لعبوا مباراة كرة وخسروها وكفى، وحتى لو فرضنا أنهم ربحوا فهذا لا يبرر لهم نظرتهم الاستعلائية على الشعوب العربية الأخرى، فحان الوقت ليقرّوا بأنهم كغيرهم من العرب في تونسوالجزائر والمغرب واليمن وموريتانيا والسودان وسلطنه عمان،،، نعاني التخلف والاستبداد والرشوة والفساد، كلنا في الهوى سوى كما يقولون.