من يزور الإمارات السبع التي تشكل اتحاد دولة الإماراتالمتحدة (أبوظبي، دبي، الشارقة، عجمان، أم القيوين، رأس الخيمة والفجيرة) يتأكد من حقيقة وهي أن هناك عاصمة عربية جديدة، بعيدة عن التعصب الديني أو الشوفينية القطرية، أو التعالي الثقافي والفكري، وبالرغم من أن عدد المواطنين الإماراتيين يقل عن مليون نسمة من مجموع أكثر من خمسة ملايين مقيم بالإمارات، فإن مشاريع الدولة في "أبو ظبي ودبي" هي تحويلهما إلى عاصمة عالمية خلال العشرية القادمة، وإلحاق بقية الإمارات بهما. * * فهل تستطيع الإمارات العربية المتحدة أن تكون بديلا للعواصم العربية القادمة مثل بغداد ودمشق والقاهرة، وبيروت وغيرها؟ * * صناعة القرار * من يتأمل استراتيجيات الأقطار العربية، وفي مقدمها "أم الدنيا" مصر -على حد تعبير نابليون بونابرات- يجد أنها مبنية على "احتواء الآخر"، والانفراد بالقرار في جميع المجالات، فمنذ أكثر من 60 سنة ومصر تتغنى ب (العروبة والإسلام)، لم تحقق للعرب والمسلمين ما حققته دولة الإمارات خلال 38 سنة من ميلادها، ففيها المصري والمغربي والجزائري والتونسي، والسوري واللبناني والأردني والموريتاني والسوداني والصومالي، وبقية الجاليات العربية، وهذا التنوع العربي مفقود في جميع العواصم العربية، ناهيك عن جاليات العالم الإسلامي وبقية أقطار العالم. * صناعة القرار في الإمارات يولد في "مركز الإمارات للدراسات الاستراتيجية" عبر الرصد الإعلامي لأكثر من 200 قناة تلفزيونية ومئات القنوات الإذاعية والصحف ومنشورات مراكز بحوث العالم والكتب وغيرها من الوسائل الإعلامية. * وتحوّل "المعلومات والتحاليل" ذات الصلة بانشغالات الدولة الإماراتية إلى صانعي القرار فيها، وعليها يتخذ القرار الإماراتي في مستجدات الأحداث. * بينما مصادر القرار في بقية أقطار الوطن العربي هي أجهزة الأمن أو أصحاب المال والأعمال أو الأحذية الخشنة. * ففي مصر مثلا يتخذ القرار ما بين مبارك وأبنائه وجهاز الأمن، وفي الجزائر يتخذ القرار ما بين "المرادية وتڤارة"، وبقية وسائل الإعلام مجرد "شروح وتفاسير" أو حملة إعلامية لتثمين القرار. * فالفتنة أشعلتها القنوات الرسمية في مصر، بنفي الاعتداء على حافلة الفريق الوطني، والطعن في التاريخ المشترك بين الجزائر ومصر، وتسويق "المعلومات الخاطئة" ونسبتها إلى الجريدة الأولى في الوطن العربي، وهي "الشروق اليومي"، دون التأكد من مصدرها. * مما يعطي الانطباع بأن الصحافة العربية والقنوات الفضائية تتغذى بالإشاعات وتروج لها، بهدف تضليل الرأي العام العربي، والدليل على ما أقول أن من يعيد قراءة ما كتبه الإعلاميون المصريون حول الإمارات العربية يكتشف النظرة المتعاقبة على الآخر. * فإذا كان أحمد رجب في عموده (1/2 كلمة) يعتقد أن الجزائر صفر وأن مصر هي التي تعطيها قيمتها، متجاهلا بأن الصفر هو الإنجاز العربي الوحيد الذي تبنى عليه اليوم حضارة الأرقام في العالم، فإن كاتبا آخر، أكثر شهرة من أحمد رجب، كتب ذات يوم عن الإمارات بأنها "مجرد أشعة في الفصاء" أو "أضواء ليلية" وكاتب آخر ادعى بأنها مجرد "سوق تجاري آسيوي غربي"، وثالث ذهب إلى أنها "مجرد عمالة أجنبية" ورابع لا يرى في الإمارات سوى "الشيكات والهبات" والحقيقة أنها ورشة كبيرة لمشروع عربي مهم وهو الانتقال من منطق القبيلة إلى منطق الدولة بحيث أن تعدد الثقافات والديانات والأعراف والجنسيات في الإمارات دفع بصناع القرار إلى الاهتمام بالمواطن وربطه بالهوية العربية والانتماء الحضاري. * وكان من نتائج الأزمة المالية العالمية أنها قربت بين إماراتي دبي أو دبي، وبدأ التوجه نحو العمالة العربية وخاصة المغربية. * وقيام الإمارات على النظام الدستوري دفع ببقية الدول الخليجية إلى التفكير في إنشاء دساتير خاصة بها. * والخلاف بين الإمارات العربية المتحدة وبقية دول الخليج (السعودية وقطر والكويت) نابع من أن الإمارات تلجأ في اتخاذ قراراتها إلى "مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية"، الذي يزود صانعي القرار ب (التقارير) والدراسات الاستشرافية التي تسمح لهم باتخاذ المواقف في الوقت المناسب. * مشكلة الخليج العربي هي السعودية التي ترى أنها الأحق بالقيادة السياسية والاقتصادية بحكم موقعها الديني ومكانتها النفطية، وهو حق، ربما يراد به باطل، لأن "التداول على السلطة في الاتحاد الأوروبي" لا يخول لألمانيا سلطة الانفراد بالقرارات بحكم موقعها الاقتصادي، ولا يسمح لفرنسا بذلك بحكم حقها في "النقض" أو "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي. * ولا تختلف نظرة مصر إلى بقية الأقطار العربية عن نظرة السعودية، فمصر تعتقد أنها "الزعيم الأوحد" للأمة العربية. * ومشكلتها مع الجزائر بدأت عام 2006 حين طرحت الجزائر فكرة "تدوير" رئاسة الجامعة العربية على بقية الأقطار العربية، وسكوتها جاء بعد أن منحها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي رئاسة "الاتحاد المتوسطي"، ولقاء مبارك بنتياهو، خلال الأزمة الجزائرية المصرية، هو للتنسيق، باعتبار أن الاجتماع القادم ستحضره إسرائيل، ومن الطبيعي أن تقاطعه الجزائر، كما أن عملية التصعيد الرسمي المصري إزاء الجزائر هو بهدف إفشال القمة العربية المقرر انعقادها في طرابلس العام القادم، وزيارة أبو الغيط للجزائر، المنتظرة، ستكون لتسليم الدعوة للرئيس بوتفليقة للمشاركة في قمة "الاتحاد المتوسطي"، وليس لتهدئة الأجواء كما قد يعتقد البعض. * * انهيار "الوصاية" على الجزائر؟! * * حين يجمع الفنانون والكتاب التوقيعات لمقاطعة دولة عربية، لأن فيها جمهورا رياضيا ينتصر لفريقه، فهذا يعني أن هؤلاء الفنانين والكتّاب مجرد أنصار لفريق رياضي انهزم، وحين يقول كاتب كبير في مصر إن الانتصار الذي تحقق للجزائر هو انتصار للتطرف و"البلطجة"، وأن الانتصار الحقيقي هو للاعتدال، أتساءل: هل سيكون الفريق الجزائري ممثلا للعرب أم للبلطجية من العرب؟ * المؤكد أن ما حققته الجزائر منذ 1962 لغاية اليوم من تعزيز للوحدة العربية، والدفاع عن الانتماء العربي قد وضعته السلطات المصرية أمام من تسميهم ب (المتطرفين) وهم جيل ربيناه على حب العرب والعروبة فإذا بهم يتلقون "الإهانات والشتم" والطعن في التاريخ المشترك. * ولا أبالغ إذا قلت إن عدد الأغاني العربية التي تمجد العرب خلال أكثر من 60 سنة من تربع "القاهرة والأزهر" اللذين بناهما الفاطميون، على عرش العروبة قليلة وسرعان ما انهارت بظهور أكثر من 350 أغنية تمجد "الفريق الجزائري" مما عزّز تمسك الجيل الصاعد بالمنطق القطري. * ما حدث حتى الآن سيدفع بالجزائر ومصر إلى إعادة العلاقات وفق المصالح المشتركة، وعلى أساس الانتماء العربي، وبالتالي فالحديث عن الاعتذار أو المصالحة هو مجرد "أكذوبة"، لأن السلطة في البلدين استخدمت المباراة سياسيا، فمصر كانت تريد "توريث الحكم وامتصاص الغضب الشباني" بتحويل الانتصار إلى عرس وطني وعربي يشرف عليه جمال مبارك، وحين فشلت في تحقيق ذلك حوّلت "الهزيمة الرياضية" إلى "رجولة سياسية" لامتصاص غضب الشارع المصري والمطالبة بالاعتذار الرسمي عن شيء لم يحدث، حتى يبقى "الرأس مرفوعا". * والجزائر تحركت تحت ضغط الشارع الشبابي إلى دعم الأنصار، لامتصاص الغضب، وقد حقق لها الانتصار ما كانت تتمناه، ولهذا أغلقت قناتها اليتيمة أمام الجميع، ومنعت صحفها الرسمية من الدخول في "مواجهة إعلامية"، إلا أن الصحافة الخاصة وجدت نفسها ترعى "الفريق الوطني" وتدافع عنه، وتصبح حديث القنوات الفضائية الرسمية والخاصة وتخيف الكثير من "أهرامات مصر". * يبدو لي أن الأزمة الجزائرية المصرية سهّلت مهمة الإمارات العربية في أن تكون عاصمة عربية جديدة، بما لها من هياكل مادية ومشاريع مستقبلية، وبما تتحلى به من فهم صحيح للعلاقات بين الشعوب، ففي الوقت الذي اتهمت مصر حزب الله بأنه يريد القيام بتفجيرات داخل مصر، لصالح إيران، أحجمت الإمارات عن اتهام اللبنانيين الذين تم إبعادهم بسبب التحضير لتفجيرات -حسب التقارير السرية- عن الكشف عن ذلك أو الدخول في ملاسنات على الطريقة المصرية. * وما دامت الإمارات تملك القدرة على اتخاذ القرار، في الوقت المناسب، وتساهم بقدر كبير في نشر ثقافة الاختلاف، والتمسك بالانتماء العربي، والتحضير لعاصمة عربية قادرة على منافسة عواصم العالم، فعلينا بدعمها عن طريق العمل المشترك الذي يفتح الأبواب أمام مستقبل الجيل بعيدا عن الوصاية والزعامة والانفراد بالقرار.