جاءت إعادة بعث مشروع تعديل الدستور من قبل الرئيس، بوتفليقة، في ظرف اقتصادي متأزم، طبعه التراجع المخيف لأسعار النفط في الأسواق العالمية، إلى ما دون السعر المرجعي في قانون المالية، وهو ما دفع بعض المتابعين إلى الاعتقاد بأن طبيعة المرحلة المقبلة، باتت شبيهة بتلك التي عاشتها البلاد بعد منتصف الثمانينات. فهل اقتنعت السلطة أخيرا بأن ملف تعديل الدستور استهلك الكثير من الوقت والجهد، وأنه حان الوقت للحسم فيه؟ أم إن القرار ينطوي على مناورة سياسية هدفها صرف أنظار الجزائريين عن النقاش حول الأزمة الاقتصادية؟ أم إن المسألة تنطلق من الاعتبارين معا؟ هذه الأسئلة وأخرى سيجب عنها "الملف السياسي" لهذا العدد .
دعوات جديدة للاحزاب مشاورات مكررة .. ومسلسل لا ينتهي بات الدستور الجديد أقرب ما يكون من أن يرى النور بعد نحو خمس سنوات من الانتظار، قراءة زاد من صدقيتها، جمع الرئيس بوتفليقة أركان حكومته في لقاء خصص، لأول مرة، لدراسة الترتيبات الأخيرة، قبل الإعلان عن المسودة النهائية للدستور المقبل، بحسب بيان الرئاسة. وتشير مصادر على صلة بالملف، أن رئاسة الجمهورية بصدد إرسال دعوات إلى مسؤولي الأحزاب السياسية بداية من نهاية الأسبوع الجاري لمشاورات جديدة ونهائية، بشأن تعديل الدستور، يشرف عليها رئيس الديوان بالرئاسة، أحمد أويحيى، لتضاف بذلك إلى المشاورات التي بدأت في عام 2011، مع رئيس مجلس الأمة، عبد القادر بن صالح، ثم الوزير الأول، عبد المالك سلال، ثم رئيس الديوان بالرئاسة بعد ذلك. وبحسب متابعين، فإن الكثير من النقاشات التي تعيشها الساحة السياسية، وفي مقدمتها التراشق الإعلامي بين الفرقاء السياسيين الذي يعتبر انعكاسا لما يجري في أروقة النظام من تجاذبات، واحتدام الأزمة الاقتصادية مع نزول أسعار النفط في الأسواق العالمية إلى ما دون ال 37 دولار للبرميل، المحدد كسعر مرجعي في قانون المالية، كل هذه المعطيات وأخرى كانت وراء تحرك الرئاسة لحسم ملف تعديل الدستور، الذي عمّر لأكثر من خمس سنوات. وإن أصبح طرح الدستور الجديد مسألة وقت، إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: هل سيكرّس الدولة المدنية مثلما وعد بذلك الأمين العام للأفلان، عمار سعداني، ورموز حزبه في أكثر من مناسبة، أم إن تلك التصريحات فرضتها الصراعات السياسية التي سبقت ترشح الرئيس بوتفليقة للعهدة الرابعة. ومنذ البداية، حاولت بعض الأطراف السياسية إعطاء انطباع بأن تأخر الحسم في مسألة الدستور الجديد، له علاقة بالصراع الدائر في القمة حول طبيعة الدولة في الدستور المقبل، بمعنى هل ستأخذ طابع الدولة المدنية أم إن الوضع الراهن سيتكرس؟ جل المتابعين على إدراك تام بأن تصريحات الرجل الأول في الحزب العتيد، كانت موجهة ضد الفريق محمد مدين، المدعو توفيق، مسؤول دائرة الاستعلامات والأمن حينها، وضد طريقة تسييره لهذا الجهاز الحساس في الفترات السابقة، بشكل أوحى وكأنه ضد مشروع الدولة المدنية. أما اليوم، فالمشهد السياسي طبعه الكثير من المتغيرات، وخاصة منذ الخريف المنصرم، الذي سجل محطة مثيرة في قمة الهرم، تمثلت في إبعاد الفريق توفيق من إدارة جهاز المخابرات بعد 25 سنة في هذا المنصب، وهو التطور الذي وصفه البعض ب "الزلزال السياسي"، لكونه أخل بمنطق الحفاظ على التوازنات في قمة السلطة، وجعلها تسير في اتجاه واحد. ما هو مطروح بقوة برأي متابعين، هو أن التعديل الدستوري مرشح لأن يشمل الكثير من النقاط التي أثير بشأنها نقاش طويل منذ إعلان الرئيس بوتفليقة عن المشروع في خطابه الشهير في أفريل 2011، فهناك من يتحدث عن إمكانية إدراج اللغة الأمازيغية كلغة رسمية، مثلما يجري الحديث بقوة أيضا عن العودة إلى العمل بنظام العهدتين الرئاسيتين، الذي ألغي في تعديل 2008، وتعزيز الدور الرقابي للمؤسسة التشريعية، فضلا عن تمكين المعارضة من حرية أوسع.. غير أن المشكل لا يكمن في النصوص، بل في تجسيدها على الأرض، كما تقول المعارضة، فالدستور الحالي برغم ما فيه من عيوب، إلا أنه يتوفر على الكثير من النصوص والقوانين التي لا تقل ديمقراطية عن نظيرتها في دساتير الدول الغربية المعروفة بعراقتها في الديمقراطية. فالدستور الحالي، يتحدث ودون مواربة عن الفصل بين السلطات، ويعطي الحق للهيئة التشريعية في ممارسة الرقابة على الجهاز التنفيذي ومساءلة الحكومة وإسقاطها، كما يعطي الحق للجزائريين في إنشاء أحزاب سياسية، غير أن هذه النصوص غير مفعّلة، ويكفي للتدليل على ذلك، وجود العديد من مشاريع الأحزاب مجمدة على مستوى وزارة الداخلية.. والأمثلة أصعب من أن يتم حصرها.
عضو المكتب السياسي ل "الآفلان" رشيد عساس الدستور الجديد سيعيد للبرلمان هيبته ويحد من سطوة الحكومة إعلان الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، عمار سعداني، عن موعد تعديل الدستور في جانفي هل هي معلومة أم توقع؟ أكيد.. لما يتكلم الأمين العام لحزب جبهة التحرير ويعلن عن تعديل للدستور في جانفي 2016، فهذا نابع من معلومات أكيدة لديه لأنه يدرك جيدا ما يقوله في تصريحاته المبنية غالبا على معطيات متوفرة لديه، ونحن نرتقب السنة الجديدة لتمرير الدستور عبر غرفتي البرلمان إلا إذا حدث طارئ أدى إلى تأجيله. برأيكم، ماذا سيقدم الدستور الجديد في سياق الوضع السياسي والاقتصادي الراهن؟ الدستور الجديد سيمكن من تحديد مختلف المسؤوليات في الدولة، وهذا انطلاقا من تغيير النظام السياسي الحالي وتحديد المهام والمسؤوليات، وفي حالة حدث ذلك سنمر من مرحلة التمييع في تحمل المسؤولية والفشل الحاصل في الأداء الحكومي، إلى مرحلة تحديد المسؤوليات التي لن تتأتى إلا من خلال تكوين حكومة تنبثق من الأغلبية البرلمانية وتكون هناك رقابة للهيئة التشريعية على الهيئة التنفيذية، بالإضافة إلى محاسبة كل مسؤول على ما يقوم به، وإذا ثبت وتوفرت هذه الآليات في الدستور الجديد ستؤثر من دون شك، على الجانب الاقتصادي، لأن سياسات الحكومات هي التي تحدد كافة المجالات الاجتماعية والاقتصادية للبلاد. هل تعتقدون أن طرح الدستور في الوقت الراهن يشكل أولوية بالنسبة إلى المواطن؟ صحيح، إن المواطن الجزائري في الظاهر يعيش يومياته المرتبطة بتدهور القدرة الشرائية وانخفاض العملة الوطنية مقابل الدولار وارتفاع أسعار بعض المواد الاستهلاكية في السوق العالمية، وهو مهتم بالجانب الاجتماعي أكثر من أي شيء آخر، لكن رغم ذلك لا يمكن أن يغفل الجانب السياسي المهم جدا، ولاسيما الدستور الذي من شأنه إحداث تغييرات مهمة على كافة الأصعدة، وبعث حركية سياسية واقتصادية انطلاقا من سياسة واضحة، سيتمكن الشعب على إثرها من محاسبة المسؤولين عبر إخضاعهم للرقابة وهو أمر مهم بالنسبة إلى المواطن. دستور 1989 جاء في ظروف مشابهة لما تعيشه البلاد اليوم، بمعنى أنه كان مخرجا سياسيا فاشلا لأزمة اقتصادية، برأيكم هل يتكرر هذا السيناريو اليوم؟ لا أوافقكم الرأي بتاتا، لأن الوضع حاليا مختلف تماما ولا يتشابه مع ما كان حاصلا في سنة 1989، فآنذاك كانت "البيريسترويكا" أو رياح التغيير تهب على الأنظمة الدكتاتورية، الاتحاد السوفياتي سابقا ودول أوربا الشرقية. والجزائر كانت تعيش صعوبات اقتصادية وأزمة خانقة، ومقبلة على إصلاحات سياسية واقتصادية أملا في تدارك الوضع، وأعقبتها بعد سنتين أزمة أمنية كبيرة، لكن الأمر يختلف اليوم، لأنه ليست لدينا مديونية كبيرة وعندنا احتياطي معتبر، والأزمة الاقتصادية الحالية تستوجب علينا ضبط بعض الأمور، واتخاذ سياسة تقشفية، كما أن الشعب الجزائري جرب كل السياسات من الحزب الواحد إلى الإسلاميين والعلمانيين وعاش العشرية السوداء، وهو يعي ما يجري حوله في بلدان الربيع العربي، فمواطن 2015 لا يشبه مواطن 1989. ما هي برأيكم التعديلات التي يتوقع أن يشملها التعديل الدستوري المرتقب؟ نتوقع أولا أن يتم تغيير نظام الحكم ليصبح "شبه رئاسي" بحيث تتشكل الحكومة من الأحزاب التي تحصل على الأغلبية البرلمانية، مع التأكيد على مبدإ الفصل بين السلطات فصلا تاما، واستقلالية السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، ونتوقع أن تمنح الحماية اللازمة للمعارضة، وتعزيز الحقوق الفردية والجماعية، مع تعزيز صلاحيات المؤسسة التشريعية ليكون الشعب مصدرا للسلطة، مع تدارك بعض النقائص الموجودة في الدستور الحالي.
عبد الله جاب الله رئيس جبهة العدالة والتنمية السلطة تفتقد إرادة الذهاب إلى دستور توافقي هل تعديل الدستور ضرورة وأولوية في الوقت الحالي؟ كان الأحرى أن يقال هل تملك الجزائر دستورا يجسد الوفاء لبيان أول نوفمبر ويحقق طموحات الأمة في دولة جامعة بين العدل والإحسان وبين القوة والرحمة، وقادرة على بسط الحريات والحقوق وحمايتها من التعسفات والتجاوزات، وقائمة بواجبات التنمية والعدل السياسي والاجتماعي والاقتصادي أم لا؟ فإذا كان الجواب ب: لا، فهذا يعني أن النخب التي حكمت البلاد قد ظلمت الشهداء وظلمت الأمة، وأن الحاجة إلى رفع هذا الظلم ملحة، ولا يتم ذلك إلا بوضع دستور توافقي يحقق ما سبق ذكره، فإذا كانت إرادة النخبة النافذة في السلطة منصرفة لتحقيق ذلك فلتباشره، أما إذا كانت غير مستعدة لذلك فلا قيمة عندئذ لما يصدر منها، ولا حاجة لتسويد الصفحات والحديث عن ذلك. بالنظر إلى التباين القائم بين السلطة والمعارضة، هل من الممكن والمقبول تمرير الدستور؟ إني اعتقد أن السلطة القائمة اليوم لا تملك الاستعداد ولا الإرادة للذهاب إلى وضع دستور يستجيب لتطلعات الأمة؛ فيزيل كل أناع الخلل الموجودة اليوم في دستور 1996 سواء تمثل في غموض وكثرة الأخطاء والنقص، أو تمثل في الخروج عن الأصول الشرعية في السياسة والحكم أحيانا، وعن قواعد الديمقراطيات الحديثة أحيانا أخرى والتي مكنتهم من الاستبداد والاستغلال والعدوان على الحقوق والحريات والنيل من ثوابت الأمة ومصالحها، وتسخير مؤسسات الدولة وإمكاناتها لخدمة ما يريده أصحاب القرار كلما أرادوا ذلك، فإذا كان الاستعداد لمعالجة كل ذلك قائم فنعم للتعديل الدستوري، أما إذا لم يكن الاستعداد لمعالجة كل ذلك - كما هو واضح فإن مجاراتهم فيما يريدون فعله مسؤولية ثقيلة أمام الله تعالى ثم أمام الأمة والتاريخ، ولا يقبل السكوت عن السلطة وهي ترتكب أكبر الجرائم في حق الشهداء والأمة والأجيال القادمة. هل تعتقد أن السلطة تريد الإفراج عن الدستور في الأسابيع القادمة للتغطية على المأزق الاقتصادي؟ مثل هذا الاحتمال وارد والشيء من مأتاه كما يقال، لا يستغرب والواجب هو عدم مجاراتهم في ذلك . من حيث السياق السياسي والاقتصادي، ما هي أوجه الشبه بين دستور 1989 والمشروع الجديد؟ دستور 1989 ألغي وجاء بعده دستور 1996 وهو المعمول به، ويوجد فيه أشكال وصور من الخلل والنقص والغموض والفراغ لا تقبل وقد ألمحت إليها في الجواب عن السؤال الأول والثاني، ولا يمكن توقع ما سيأتي به التعديل القادم على وجه الدقة حتى يمكنني المقارنة ولكني لا أتوقع منهم تعديلات جوهرية شاملة وعميقة تمس مختلف الجوانب. وعلى سبيل المثال، أقول إن دستور 96 لم يحدد المرجعيات والمبادئ الموجهة والمنظمة للمجتمع والدولة، ولم يحدد طبيعة مسؤولية الدولة ووظيفتها ومهامها وطبيعة نظام حكمها، وأهمل الحديث عن أدوات ممارسة الشعب لسلطاته وغايات مؤسسات الدولة وما لا يجوز لها فعله . وفي باب الحقوق والحريات تعمد واضعو الدستور ترك العديد من الحقوق والحريات بلا ذكر مثل المساواة أمام مؤسسات الدولة وواجب الدولة نحو المفرج عنهم أو المسجونين خطأً... كما تعمدوا إهمال الحديث عن الضمانات التي تحمي الحقوق والحريات من التعسفات والتجاوزات ... وفي باب تنظيم السلطات تعمد واضعو الدستور العدوان على أهم شيء يحمي الحريات ويمنع الاستبداد ويصون الشرعية وهو مراعاة التوازن في الصلاحيات بين السلطات، فارتكبوا بذلك جريمة كبرى في حق الأمة بمركزتهم الصلاحيات المختلفة في يد الرئيس ومن الصعب التوسع في بيان النقائص الموجودة في هذا الباب وقد فصلت القول فيها في كتابي الفساد في البلاد . وفي باب الرقابة والمؤسسات الاستشارية فإن واضعي الدستور تعمدوا إهمال النص على مؤسسات الرقابة على أعمال السلطات وذوي النفوذ وعلى محاربة الفساد السياسي والمالي والإداري والقضائي فانعدمت لذلك الرقابة بأنواعها المختلفة السياسية والمالية والإدارية والقضائية والدستورية، وانتشر بسبب ذلك الفساد بأنواعه المختلفة حتى آل الأمر إلى ما نحن عليه اليوم من ظلم وفساد متنوع ومتفرع.