عندما نقارن بين النتائج المترتبة على انتفاضة أكتوبر 1988 باعتباره يمثل بلغة اليوم "الربيع الجزائري" والنتائج المترتبة على أحداث "الربيع العربي"، فإنه يمكن القول إن الربيع الجزائري (5 أكتوبر 88) قد حقق مكاسب سياسية كبيرة. لنرى مثلا هامش الحرية السياسية والإعلامية الذي توفر للجزائريين عقب أحداث أكتوبر 1988 والمتجسِّدة في مختلف الدساتير بدءاً من دستور 1989 ووصولا إلى دستور 2016. ولا يمكن اعتبارُ انتقادات المعارضة لمضامين الدستور والقوانين المترتبة عنها على أساس أن التضحيات الجسام التي قدّمها شباب أكتوبر 88 وحتى التضحيات التي قدّمها الشعب الجزائري بكافة مكوّناته خلال الأزمة الأمنية لمرحلة ما بعد أكتوبر 1988 ذهبت سدى. العمل السياسي لا يمكن أن تستفيد منه المعارضة بمفردها، لأن السلطة شريكٌ أساسي في العمل السياسي، وحسابات الربح والخسارة، أو النجاح والفشل، يجب أن نقيسه بالبيئة الاجتماعية والثقافية للبلاد، وليس بميزان الديمقراطية الغربية والتقارير المختلفة لوزارات خارجية الدول الكبرى أو المنظمات غير الحكومية لحقوق الإنسان ومحققون بلا حدود وغيرها من المنظمات...
بات التساؤل ضروريا حول خلفية عودة الصقور عشية أكتوبر 1988، فكثير ممن قرأت لهم التصريحات أو الكتابات يحللون الوضع بشكل يتمنون فيه انفجارا اجتماعيا جديدا مثلما حدث في أكتوبر 1988، وكأنهم يرغبون في مشاهدة الجزائر تعيش نفس المشاكل التي تعيشها دول الربيع العربي اليوم! إن قياس النتائج بهدوء وبأعصاب باردة في مختلف المجالات خاصة السياسية والإعلامية والاجتماعية والاقتصادية، يجعل المحللين المنصفين يشعرون بالارتياح لما تحقق في الجزائر خلال العقد الأخير، لكن في الوقت ذاته، فإنه من غير المعقول الادِّعاء أن المكاسب التي حققتها الجزائر منذ أكتوبر 1988 إلى يومنا هذا هي نتائج مُبهرة للغاية، لكنها معقولة للغاية بالنظر إلى التحديات التي شهدتها الجزائر خلال السنوات العشرين الأخيرة، وهي السياق الذي ينبغي أن نأخذه بعين الاعتبار للحكم على النجاح أو الفشل. ورغم الصعوبات التي تشتغل فيها المعارضة والجمعيات ووسائل الإعلام والمؤسسات الاقتصادية الخاصة، ورغم الصعوبات التي تعترض حرية الصحافة والمجتمع بصفة عامة، فإنه لا مجال للمقارنة بمرحلة ما قبل أكتوبر 1988. حتى أن المنتقدين للمكاسب المحققة وعلى رأسهم التيار الإسلامي وما يمكن تسميته بالتيار الأمازيغي، يكفي أن ننظر إلى سجناء الرأي مثلا من التيارين قبل وبعد أكتوبر 1988، ويكفي كذلك أن ننظر إلى وضعية الأمازيغية قبل أكتوبر 1988 وبعد دستور 2016 مثلا، ألم تصبح لغة وطنية ورسمية وتُدرّس في المدارس والجامعات، ولها قنوات إذاعية وتلفزيونية وصحف ومجلات؟ ولأنه بأضدادها تتميز الأشياء، فإن دول الربيع العربي مثلا، وخلال 6 سنوات تشهد انهيارا كليا في الدولة الوطنية، وتناميا في العنف والقمع وتراجعا في الحريات وتوسعا في المحاكمات غير القانونية وانفلاتا أمنيا لا مثيل له وتحوّل عدة بلدان إلى مسرح لحرب إقليمية قاتلة، وتدخل أجنبي عسكري وسياسي خطير للغاية، وتهديد للوحدة الوطنية والترابية. ونلاحظ كذلك أن الأفق في كل بلدان الربيع العربي ضبابي للغاية من الناحية السياسية ومن الناحية الاقتصادية مع تزايد الأطماع والمخاطر الخارجية. وعلى هذا الأساس بات التساؤل ضروريا حول خلفية عودة الصقور عشية أكتوبر 1988، فكثير ممن قرأت لهم التصريحات أو الكتابات يحللون الوضع بشكل يتمنون فيه انفجارا اجتماعيا جديدا مثلما حدث في أكتوبر 1988، وكأنهم يرغبون في مشاهدة الجزائر تعيش نفس المشاكل التي تعيشها دول الربيع العربي اليوم! ومن هذا المنطلق وحده يمكن أن نفهم لجوء عدّة وسائل إعلام جزائرية، خاصة أهمّ المواقع الإلكترونية المعروفة، إلى دعم بعض الوزراء الإيديولوجيين رغم المشاكل الكبيرة التي يعيشها قطاعُهم، مقابل التحامل على قطاعات وزارية حققت نجاحات مبهرة خلال سنوات قليلة مثل وزارة السكن. ذلك أن المكاسب التي حققها قطاع السكن هي الغابة التي غطت على فشل كثير من الوزراء، وهي صمام الأمان الذي جنّب الجزائر الربيع العربي عام 2011، وهي عامل استقرار الجزائر رقم واحد، وهي الوجهة التي يعلق عليها الجزائريون آمالاً كبيرة في تحقيق حلم الحصول على سكن محترم، بعد أن أعلنت الجزائر العاصمة أول عاصمة إفريقية تقضي نهائيا على البيوت القصديرية. إن لجوء صقور وسائل الإعلام الجزائرية إلى استهداف قطاع السكن تحديدا، والتشكيك في كل المكاسب التي حققتها الجزائر، يعني زرع الشك والريبة في نفوس المواطنين على أمل توفير أرضيةٍ لأكتوبر جديد أو ربيع عربي على شاكلة ما يحدث في الدول العربية حاليا. إن المناسبات الوطنية الهامة، مثل ثورة الفاتح نوفمبر، و17 أكتوبر، وحتى 5 أكتوبر، و11 ديسمبر، و8 ماي، و20 أوت، يجب أن تكون فرصة سانحة للتقييم والمطالبة بالتحسين، وليس معقولا أن نسترجع الماضي للعبث بالمستقبل، فعلى الصقور أن تقلم أنيابها.