كانت المعركة منتظرة. إنها معركة تواصلت لمدة أشهر طويلة، ولم يتم الحسم فيها لحد الآن. * ومن المنتظر أن يتم الفصل بعد شهر، مع القمة التي من المحتمل أن تجمع قادة أوروبا وبلدان المتوسط في 13 جويلية المقبل، وهي القمة التي يريدها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي لإطلاق مبادرته حول المتوسط بعد أن يكون قد تسلم رئاسة الاتحاد الأوربي. * إن المعركة لم تشهد مواجهة بين الشمال والجنوب، ولا بين الفقراء والأغنياء. إنها لم تعرف مواجهة بين الإسلام والمسيحية، ولا بين دول متقدمة وأخرى فقيرة. إن المواجهة كانت بين دول تعرف مصالحها، وتحترم شعوبها، وتعمل لضمان سعادة ورفاهية مجتمعاتها من جهة، وبلدان جامدة، متحجرة، لا تفكر في المستقبل، وتكتفي بتسيير الحاضر والعمل للمحافظة على الوضع القائم من جهة أخرى. * هذا ما تم تأكيده قبل يومين، مع القمة التي تم تنظيمها في ليبيا في محاولة لتحديد موقف مشترك من اللقاء المرتقب في باريس للإعلان عن انطلاق رسمي لمبادرة نيكولا ساركوزي. فالبلدان المجتمعة في ليبيا لم تأت بمشروع أو مبادرة، بل اكتفت بالبحث عن طريقة تسمح لها بعدم الانضمام إلى المبادرة لا أكثر ولا أقل، لا لأن المبادرة تنفع أو تضر، بل لأن هذه البلدان بمؤسساتها الحالية عاجزة عن مواكبة أية مبادرة تحمل أفكارا جديدة. * ويمكن أن نعيد التذكير بالحجة التي ستتقدم بها بلدان الضفة الجنوبية لرفض مشروع المتوسط، منها رفض المشاركة المفروضة عليها إلى جانب إسرائيل، وعدم وضوح ملامح المشروع الفرنسي، وعدم توفر الوثائق التي من المحتمل أن تصدر عن هذا اللقاء، إضافة إلى أن الرؤساء الضيوف سيجدون أنفسهم مدعوين لحضور عرض عسكري ستشارك فيه فرقة من الجيش الإسرائيلي يوم 14 جويلية. * ويضيف أهل الجنوب أن مشروع الاتحاد من أجل المتوسط قد تم تحديده من طرف البلدان الأوربية بصفة منفردة، ولم تشارك بلدان الجنوب في صياغته، كما أنه يهدف إلى وضع شعوب الجنوب وثرواته تحت تصرف الشمال. ومن المحتمل أن أوربا ستجعل من هذا الفضاء وسيلة للدفع إلى التطبيع بين إسرائيل والبلدان العربية، ولفرض سياستها في ميادين مختلفة مثل التحكم في الهجرة والطاقة وغيرها من الملفات الساخنة. * كل هذا صحيح. إنه كلام صحيح، لكنه ليس كافيا. بل انه كلام حق يراد به باطل، كلام لا يهدف إلا لتغطية الجمود والعجز الذي يسود في بلدان الجنوب، بلدان لا تعرف كيف تتعامل مع المبادرة الجديدة، ولا تعرف ماذا تقترح كبديل لما جاء به الرئيس الفرنسي. * وحتى تكون الأمور واضحة، لنقل أن قادة أوربا »أولاد حرام« يريدون الشر للعرب وللمسلمين، كما يريدون الاستيلاء على المحروقات وعلى الفئات القليلة التي تتحكم في العلم والمال في الضفة الجنوبية. ولنقل أن قادة أوربا ظالمين ولعنة الله على الظالمين... ثم ماذا؟ * ماذا قدمت بلدان الضفة الجنوبية كبديل؟ هل اقترحت شيئا ما لتنظيم هذا الفضاء بما يحمي مصالح شعوبها؟ هل قامت بأية مبادرة لفرض نظرة عربية للمتوسط، وها سطرت مخططا مستقبليا يمكن أن يأخذ بعين الاعتبار الشروط التي تريد بلدان الجنوب أن تفرضها؟ بل وأكثر من ذلك، هل تمكنت بلدان الضفة الجنوبية أن تحدد نظرتها للمتوسط، وتتشاور بينها في محاولة لمعرفة ما يمكن القيام به في مواجهة بلدان أوربا؟ * كل هذا لم يحدث طبعا. وبقيت بلدان الجنوب تنتظر ما يفعل الآخرون، واكتفى قادتها بالقول: هذا لا يعجبنا، وهذا لا يرضينا، وهذا أمر غير واضح، وهذه النقطة غامضة، ويجب توضيح تلك النقطة الأخرى... * أما دول الضفة الشمالية، فعيوبها عظمى، لكنها لا تتعلق بتلك القضايا التي يشير إليها قادة بلدان الجنوب. إن العيب الأساسي عند أوربا يتمثل في أنها لم تستطع، أو لم تتوفر لديها الإرادة السياسية الضرورية لتتعامل مع الضفة الجنوبية مثلما تعاملت أمريكا واليابان مع آسيا ثم الصين والهند. فأمريكا عملت بعد الحرب العالمية الثانية على إعادة بناء اليابان ليستعيد قوته، ثم عملت بالتنسيق مع اليابان لتطوير آسيا كلها، مما أدى إلى بروز تلك البلدان مثل سنغافورة وطايوان وكوريا وغيرها، وقد ربحت كل الأطراف في العملية. * أما أوربا، فإنها لم تستطع أن تبادر بعملية بهذا الحجم، حتى يتغير المحيط بصفة شاملة في منطقة المتوسط. وتوحي كل المؤشرات أن المشروع الأصلي للرئيس الفرنسي حول المتوسط قد مات واندثر، وأن ما سيتم تحقيقه سيقتصر على بعض القضايا الثانوية التي لن تؤثر على واقع المنطقة لأن الأنظمة القائمة في بلدان الجنوب هي التي تشكل أكبر عائق لنمو المنطقة. ويمكن أن نقول في نهاية المطاف أننا انتصرنا. لا على أوربا ولا على إسرائيل، بل انتصرنا على أنفسنا وعلى العلم والتقدم.